مع الأيام الأولى لوقف إطلاق النار، يعيش اللبنانيون مشاعر متضاربة. وهنالك من يشعرون بالفرح لتوقف القصف وزوال الخطر الذي تهدّدهم طوال الفترة الماضية. وثمة من يؤرقهم الحزن من الخسائر الناتجة من هذه الحرب الشرسة في البشر والعمران والممتلكات والبنى الأساسية للحياة وما إلى ذلك.
وحول تلك المشاعر المتضاربة، تتحدث الاختصاصية النفسية في علم النفس العيادي للمراهقين والراشدين ديانا أبو نادر.
مشاعر متناقضة بعد وقف النار، لماذا؟
وفق ما توضحه أبو نادر، لم تبدأ الحرب قبل قرابة شهرين، بل أطلّت برأسها في الجنوب اللبناني منذ أكثر من سنة. وآنذاك، أثّرت الأعمال الحربية في الشعب اللبناني كله بالضرورة، لكنها بدت مقتصرة على مناطق معينة. وحينما توسّعت بشكل مفاجئ وسريع، ترافق ذلك مع صدمة نزوح كبير وكثيف للمواطنين من قراهم.
وخلال ساعات، فُتحت المدارس لهم والمنازل والمجمعات السكنية وغيرها. وحدثت صدمة حقيقية غلب فيها التوتر المستمر في ظل انعدام الأمان. في مثل هذه الظروف تتزايد إفرازات هرمون التوتر إلى حدّ كبير، ما يجعل الدماغ في حالة صدمة وتنبّه بسبب وجود خطر مستمر.
وحينما توقف إطلاق النار، دخل كثيرٌ من اللبنانيين في حالة ذهول وصدمة ايضاً، وكأن الكل عاجز عن التصديق، ما يفسّر الازدحام على الطرقات، فيما هرعت جموع كبيرة للعودة إلى مناطقها التي نزحت منها للاطمئنان إلى بيتوها. وبدا كأنّهم لا يصدّقون ما يحصل ويرغبون في البحث عن أراضيهم ومنازلهم كي يشعروا بالأمان الحقيقي الذي لا يمكن أن يجدوه إلّا هناك.
وبعيداً من هذا الإطار، الأرجح أنّهم لم يفكروا قبل وقف إطلاق النار بالخسائر، سواء للأحبة أو المنازل أو غيرها. لقد كان العزاء مؤجّلاً بالنسبة لهم إلى حين تأمين سلامة أرواحهم. لذلك، حصل التناقض في المشاعر لدى وقف إطلاق النار، فسيطرت مشاعر الحزن وتغلّبت على الفرحة بوقف إطلاق النار والشعور بالأمان والعودة إلى الأرض.
تفسّر أبو نادر المشاعر المتناقضة لدى الأشخاص الذين وصلوا إلى ضيعهم التي اعتادت أن تُشعرهم بالأمان، بأنهم وجدوا منازلهم مدمّرة، وتيقنوا من خسارة الأحبة والأعزاء. وحينها، بدأت فترة الحداد بعدما كانت مؤجّلة بفعل الحرب والنزوح والمخاطر المباشرة التي ترافقهما. وتمازجت بداية الحداد مع الخروج من الصدمة وبدء الشعور بالأمان. وفي ملمح آخر، لقد مرّت أوقات شعر فيها المواطنون بإمكان فقدان أرضهم ووطنهم إلى الأبد، خصوصاً في ظل الحرب النفسية التي جرى التركيز عليها.
وفي ظل هذه الظروف، يغدو الحزن طبيعياً، وتُغذّيه خسائر مادية جسيمة ومعاناة نفسية مؤلمة. وعبّر كثيرون عن الأسى الذي يشعرون به بسبب فقدان ذكرياتهم وأسرارهم وحريتهم.
وفي اللحظات الأولى لوقف إطلاق النار الأولى، سرت مشاعر متضاربة على اللبناني الذي طالما تميَّز بالمرونة النفسية والقدرة على التكيّف مع الصدمات.
تعتبر أبو نادر أنه مع الخروج من الصدمة تحضر مشاعر الحزن الحقيقية بسبب حالة الفقدان. وكذلك تتزايد الحاجة إلى الدعم النفسي بسبب ما قد يظهر لاحقاً من اضطرابات نفسية في ظل الظروف الصعبة التي نتجت من الحرب.
لماذا رافقت الفرحة عودة المواطنين إلى بلداتهم رغم الدمار؟
قد يستغرب كثيرون رؤية مشاعر الفرح التي غلبت على المواطنين الذين عادوا إلى قراهم المدمّرة وقد خسروا منازلهم فيها. لكن في الواقع، ثمة علاقة وثيقة بين الأرض والشعور بالأمان. ويرجع ذلك إلى أن الأرض مصدر للشعور بالأمان الذي يبحث عنه المواطن بعد حالة القلق وانعدام الأمان والاستقرار أثناء الحرب والنزوح.
ويمثّل وجود المواطن على أرضه كل معاني الانتماء والجذور والهوية، ما قد يشكّل مصدراً للفرح. لذلك، عبّر كثيرون عن فرحتهم بالقول إنهم قد ينصبون خيماً في أرضهم طالما أن منازلهم مدمّرة، وسيكونون سعداء بوجودهم فيها.
وكذلك قد يأتي ذلك الإحساس بالأمان النفسي، عبر التحرر من الغربة في مراكز الإيواء التي نزحوا إليها. فرغم الترحاب والاهتمام، وجد النازحون أنفسهم في غير بيئتهم، وتنقصهم حاجياتهم، ويفتقدون إلى محيطهم.
وتشير أبو نادر إلى الاختلاف في الثقافة الذي يزيد الشعور بالغربة. وينتاب الضيف ذلك الشعور، بل إنه يطاول مضيفه، بسبب الفوارق بين الجهتين. وبالتالي، يضحّي الكل في حاجة إلى العودة لمحيطه وبيئته واستعادة الشعور بالأمان في الأماكن الخاصة به.
في الوقت نفسه، تشدّد أبو نادر على أن النازحين عاشوا حالة الانفصال عن المكان مرّتين. جاءت الأولى حينما غادروا منازلهم، والثانية حينما تركوا مراكز الإيواء التي تواجدوا فيها ولو قسراً. وقد بدت لحظات الوداع صعبة بسبب التواصل الذي حصل بين العائلات والتجارب والمشاعر التي عاشوها معاً. ومع ترك مراكز الإيواء، أحسّ نازحون كثر بأنهم ينسلخون عن "البيت الرمزي" الذي وُجدوا فيه خلال أكثر من شهرين.
هنالك بالفعل السعادة بوقف إطلاق النار والعودة إلى القرى وأمكنة الانتماء، لكن ساد شعور بالحزن أيضاً بسبب الانسلاخ عن مكان احتضنهم وأعطاهم أماناً وراحة نفسية. ويُضاف إلى ذلك الخوف من المجهول مما ينتظرهم في قراهم.