لم تكُفَّ إسرائيل منذ العام الماضي على الأقل، على قصف لبنان بقنابل الفوسفور الأبيض، وفق ما وثقته "منظمة العفو الدولية". وثمة مؤشرات على أنها ربما استخدمته في غاراتها الأخيرة على العاصمة بيروت. ولعل ذلك يبرر الحرائق الكبيرة التي رافقت حتى المباني السكنية الخالية من الأسلحة.
تتداول مواقع التواصل الاجتماعي فيديوات تُظهر تساقط موادَّ بيضاء اللون في سياق غارات إسرائيلية على بيروت. وقد تصاعدت بالفعل أصوات كثيرة، بما في ذلك عالمياً، تحذِّر من أن إسرائيل تستخدم الفوسفور الأبيض في عدوانها على لبنان. ولا يحتاج الأمر إلى ذاكرة ضخمة للإشارة إلى تكرار استعمالها ذلك السلاح أيضاً في اعتداءات سابقة على لبنان، كذلك الذي طاول بلدة الظهيرة الجنوبية في أواخر أكتوبر (تشرين أول) 2023. وقد أوردت "منظمة العفو الدولية" أدلة على ذلك.
تحترق بالأوكسجين ولا تنطفئ إلا اختناقاً
على شاشات التلفزة، لم تتوقف مشاهد القصف الجوي بالفوسفور الأبيض.
قنبلة تنفجر في السماء فتتناثر عنها حمم مسكوبة، كأنها فوهة بركان تنفجر في الهواء. لا يسهل انطفاء تلك النيران بالماء. ويُضاف إلى ذلك الرائحة النفّاذة الكريهة التي تُذكِّر بالثوم المتعفن.
وقد تكرر هذا المشهد في حرب غزّة، ولم تحصل إدانة فعلية له، على رغم أن معاهدات دولية موقعة من معظم دول العالم، تحظر استخدامه لقصف أهداف عسكرية بين المدنيين. إنها مادة شديدة الاشتعال، تُحدِثْ حريقاً بمجرد ملامستها أوكسجين الهواء، ولا تتوقف إلا إذا منع عنها الأوكسجين فكأنها تختنق في غيابه. وبالتالي، لا يفيد الماء كثيراً في إطفائها.
وتطلق على الفسفور الأبيض تسمية "ويلي بيت" Willy Pete، ربما كنوع من الدعابة والدلال!
عشرة بالمئة تكفي للموت
الأرجح أن المسعفين والأطباء يتعرفون على حروق الفوسفور الأبيض، لأن الحروق التي تسببها في الأجسام، تختلف بشكل كبير عن الأنواع الأخرى كلها. إذ تخترق أنسجة الجسم وتحرقها موضعياً كلها وصولاً إلى العظم. وتترافق جمراتها المخترقة للجسم مع إحداث ضرر بالغ بالجهاز التنفسي، ناجمة أساساً عن ذوبان الفسفور في دهون الجسم التي تتشربه وتنشره في أرجاء الجسد كله. وبالتالي، يضطرب عمل الجهاز الدوري والقلب، ما يؤثر على أجهزة الجسم الأساسية كالكلى والكبد والدماغ وغيره.
ربما يفسر ذلك واقع أن إصابة عشرة بالمئة من الجسم بجمرات الفوسفور الأبيض يكفي لدفعه إلى حافة الموت، فيما يصل الرقم نفسه إلى سبعين بالمئة في الحروق العادية من الدرجة الثانية [تشمل ثلثي الطبقات الأساسية للجلد]، وخمسين في المئة بالنسبة للدرجة الثالثة [تشمل الجلد والطبقة التي تليه مباشرة وقد تصل إلى اللحم].
ويبقى 15 في المئة من الفوسفور الأبيض في القسم المحترق من الجسم المصاب. وتعود تلك البقايا إلى الاشتعال مجدداً في حال تعرضها للهواء.
وتتشابه حرائق الفوسفور الأبيض وتأثيراته الجسدية، مع ما تحدثه مادة النابالم. وقد استخدم الجيش الأميركي القصف بالنابالم بكثافة في حرب فيتنام إبان ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.
وبعد غزو العراق في 2003، استخدم الجيش الأميركي الفوسفور الأبيض بشكل اشتهر عالمياً، في معارك الفلوجة عام 2004، لكنها أنكرت ذلك على مدار شهور طويلة. وآنذاك، تذرّع الجيش الأميركي بوجود مقاتلين بين مدنيين، وأنه استخدمه للإضاءة. ثم كشف تحقيق تلفزيوني إيطالي عن حقيقة الأمر. وتسبب ذلك، كالعادة، بضجة كبرى وإدانات لا حصر لها.
هل يفاجئ إن استخدمه الجيش الإسرائيلي في لبنان، بعد استعماله المتكرر في غزة؟ مجرد سؤال.
معاهدات دولية عن الفوسفور الأبيض
يوضح موقع "غلوبال سيكيورتي" Global Securityالذي يديره البنتاغون، أن الفوسفور الأبيض مصنف كمادة حارقة. وقد فرض حظر على استخدامه في البروتوكول الثالث الملحق بـ"المعاهدة الدولية حول حظر بعض الأسلحة التقليدية" (1983). وتحظر تلك المعاهدة استخدامه ضد الأهداف العسكرية التي تقع ضمن تجمعات مدنية، إلا إذا كانت معزولة بوضوح عما يحيط بها من سكان مدنيين، ومع استخدام الاحتياطات الكافية لحمايتهم عند استخدامه. ويشدد الموقع عينه علىأن الولايات المتحدة تلتزم بتلك المعاهدة، لكنها لم تُقر أبداً البروتوكول الثالث الملحق بها، لذا فإنها لا تعتبر الفوسفور الأبيض مادة محرمة.
وينبّه البروفسور بول روجرز، من قسم "دراسات السلام في جامعة برادفورد" البريطانية، إلى أن الفوسفور الأبيض يعتبر سلاحا كيماوياً إذا استُخدم عمداً ضد مدنيين.
وفي وصف موجود على موقع البنتاغون يرد أن "الفوسفور الأبيض سلاح فعال ومتعدد الاستعمالات. وقد استُعمل كسلاح نفسي قوي ضد المتمردين في الخنادق، وأولئك المتمترسين في الحفر الفردية. لقد استعمل جنودنا الفوسفور الأبيض لإخراج المتمردين من مخابئهم". انتهى الاقتباس المطوَّل. هل من مفاجأة؟
خصائص عسكرية وكيماوية
الفوسفور الأبيض مادة نصف شفافة شبيهة بالشمع، وعديمة اللون. تميل إلى اللون الأصفر، وتتميز برائحة لاذعة شبيهة برائحة الثوم النتِن. ويتميز النوع المستعمل في الأغراض العسكرية بشدة نشاطه الكيمياوي. ويلتهب عند تعرضه للأوكسجين. وحينها، يشتعل بشكل سريع ويتحول إلى خامس أكسيد الفوسفور، مع توليد حرارة كبيرة تلامس الانفجار مع صدور لهيب أصفر اللون، ودخان كثيف أبيض.
وكذلك يصبح الفوسفور مضيئاً في الظلام. واستُعين بهذه الميزة في الرصاصات التي تترك خطاً منيراً خلفها على طول مسارها، فتسمّى الخطاطية.
ويستمر هذا التفاعل الكيماوي حتى استهلاك كامل المادة أو حرمانها من الأوكسجين.
ويستعمل الفوسفور الأبيض لأغراض عدة كإصدار دخان كثيف لتحديد مكان العدو، وصنع ستار دخاني يحجب رؤية تحركات القوات، إضافة الى قدرته على الاشتعال كمادة حارقة يصعب إخماد نيرانها.
آثار صحية مأسوية
الفوسفور عنصر كيماوي يشتق إسمه من الكلمة اليونانية فوسفوروس phosphoros أي حامل الضوء، وهو الإسم القديم لكوكب الزهرة عند ظهوره قبل مغيب الشمس. واكتُشف الفوسفور في سنة 1669. وحينها، حُضِّر من الاستخدام. ونجد الفوسفور، وهو مادة صلبة بيضاء شمعية، في بضعة أشكال أساسية مثل الأبيض (أو الأصفر) والأحمر والأسود (أو البنفسجي). وفي حاله النقية يكون عديم اللون وشفافاً.
والمعلوم انه غير قابل للذوبان في الماء، ويذوب في بعض مركبات الكربون.
ولا يوجد الفوسفور في الطبيعة بشكل مستقل، بل يدخل في تركيب عدد من المواد المعدنية. ويشكل حجر الفوسفات الذي يحتوي على الخام الفوسفوري، مصدرًا مهماً، لكنه غير نقي، لهذا العنصر. ويتوافر بكميات كبيرة في روسيا والمغرب، وكذلك في ولايات فلوريدا وتينيسي وأوتاه وإيداهو في الولايات المتحدة.