ما فرّقته الحرب جمعته مائدة الطعام. قد تكون هذه العبارة الأدقّ في وصفها الواقع اللبنانيّ للنزوح وآثاره الممتدّة على كلّ تفاصيل الحياة اليومية. وسط الأخبار المتسارعة والاستهدافات الإسرائيلية المتواصلة، ينشغل اللبنانيون في السؤال "أين الضربة"؟ و"وين هيدي، حد شو؟" وننسى غالباً أن بديهيات الحياة البسيطة أصبحت عند كثيرين حقاً مسلوباً، والبداية تكون مع الطعام.
لم يكن قرار النزوح سهلاً على أحد، وجاء الرحيل مباغتاً وسريعاً. وفي الغرف الصغيرة التي كانت صفوفاً مدرسية، لجأت مئات العائلات بحثاً عن الأمان. هناك، يجلسون وينامون ويأكلون ما تيّسر أو أمكن تحضيره في غياب الظروف الصحية واللوجستية المناسبة.
في زمن الحروب والأزمات، لا يُنظر إلى الطعام على أنه مصدر للتغذية فحسب وإنما مصدر للراحة والأمل. وبينما تواصل إسرائيل حربها المتصاعدة على لبنان، يُقاوم آخرون كلٌ حسب إمكانياته.
شبح الجوع يعزّز المطابخ المجتمعيّة
نشأت فكرة المطابخ المجتمعية أو مطابخ الحساء كاستجابة للحاجة الماسّة لإطعام من يعانون نقص الغذاء أثناء الحروب أو الأزمات الاقتصادية وما يصاحبها من مجاعات. وصارت اليوم مبادرة أمل وقوّة في وجه الظلم والعنف والقتل.
سوء الأمن الغذائيّ
يعاني لبنان أصلاً من خلل في الأمن الغذائي نتيجة تراكم أزمات كبرى على غرار النزوح أثناء الحرب السورية، وقد تفاقم الخلل في ظلّ الحرب الحالية. وبالتالي، برز دور المطابخ المجتمعية لتلبية الاحتياجات الأساسية للنازحين والصامدين في قراهم.
وتعمل هذه المطابخ المجتمعية على تأمين وجبات غذائية باردة وساخنة. ومن المتعارف عليه أن تؤمّن على الأقلّ في زمن الحروب والنزاعات وجبة ساخنة وأخرى باردة ( فطور أو عشاء). تسير المطابخ المجتمعية اللبنانية على هذا النهج، وهي موجودة في لبنان منذ سنين نتيجة الحروب والأزمات التي عصفت بهذا البلد، لكنّها ضاعفت قدراتها الإنتاجية أخيراً لتلبية احتياجات متنامية، خصوصاً بعد نزوح أكثر من مليون و200 ألف شخص إلى مراكز إيواء أو استئجار منازل أو السكن عند الأقارب.
ونعرف جيداً أن دور هذه المطابخ المجتمعية لا يكتب له الاستمرار إلّا بفضل دعم بعض المنظمات الدولية والمحلية مثل البنك الغذاء اللبناني، نساند، وبيت البركة، بالإضافة إلى برنامج الغذاء العالمي و"المطبخ المركزي العالمي" World Central Kitchen.
وتأتي قوة المطابخ المجتمعية الأساسية من التطوّع الذي يمكّنها من العطاء، ويضاف إليه التمويل بالطبع.
التحدّيات في أرض المعركة
نتحدث عن هذا الموضوع مع الأستاذ والباحث في علوم الغذاء في الجامعة اللبنانية الأميركية والمؤسس للجمعية اللبنانية للتعايش والانماء "لا كود" (Lacode) حسين حسن. وقد تناول أبرز المعوّقات التي تواجه العاملين في هذه المطابخ المجتمعية، خصوصاً صعوبة التنقّل لإيصال الوجبات الغذائية إلى المستفيدين، وأحياناً تعذّر إيصالها نتيجة القصف.
وأضاف، "يتمثّل التحدّي الثاني في تأمين المواد الأولية لاسيّما إلى المناطق التي تشهد قصفاً واستهدافاً مثل بعلبك حيث نعمل هناك، ما يؤدّي إلى رفع كلفة الإنتاج بسبب الطلب الزائد والكمية المحدودة".
وأضاف، "كذلك تُشكّل سلامة المتطوّعين كما هي الحال لدينا التحدّي الثالث. ولقد أصيبت 3 نساء خلال عملهنّ التطوّعي في بعلبك، ما أثّر بشكل واضح على معنويات الفريق، وامتنع البعض من استكمال عملهنّ، ما يزيد من الضغط واستنزاف القدرات البشرية".
وينتقل حسن إلى التحدّي الرابع الذي يتمثّل في الحفاظ على معايير النظافة وسلامة الغذاء في هذه الظروف الصعبة والمعقّدة. "نحن نجهل حقيقة المياه التي تصل إلى المنازل في ظلّ عدم الرقابة والمتابعة على تكرير المياه، إلى جانب تعبئة المياه من الصهاريج ومدى مطابقتها المعايير".
إلى جانب كلّ هذه التحدّيات، يبقى الشحّ الماديّ أساساً في نهوض هذه المطابخ المجتمعية بمهمّتها ورسالتها الإنسانية. ولكن في حرب الاستنزاف الطويلة، هنالك حاجة إلى مبادرات تمويل من المنظمات المحلية والدولية لتبقى "واقفة على إجريها".
السلامة الغذائيّة: معايير أساسيّة
ورغم كلّ هذه التحدّيات، لا شيء يقلّل من أهمية الحفاظ على المعايير في السلامة الغذائية، فكيف تضمن المطابخ المجتمعية سلامة ونظافة الوجبات؟
ينطلق حسن من أهمّ القواعد الأساسية لضمان جودة الوجبات الغذائية وسلامتها وأبرزها:
* ممارسات التصنيع الجيّد
* ممارسات النظافة الجيّدة
ويوضح، "يجب تطبيق هذه الممارسات من المزارع إلى المستهلك، أي من لحظة الحصول على المواد الأولية وصولاً إلى المستفيد. ومن الطبيعي أن يكون العاملون في المطابخ المجتمعية قد خضعوا إلى تدريبات حول معايير النظافة وسلامة الغذاء".
ويكمل، "نشدّد على أهمية تعقيم كلّ الأسطح والمعدّات المستخدمة في تحضير الوجبات الغذائية لضمان عدم وجود أيّ ملوّثات. وأيّ خطأ يحصل يمكن أن يُسبّب في تسميم المئات بما أنّها تُعدّ وجبات غذائيّة لعدد كبير من الناس".
ويتمثَّل الإجراء الثالث الذي يشير إليه حسن في ارتداء الملابس الوقائية لكلّ العاملين في هذه المطابخ ( غطاء للرأس- كمامة- كفوف- مريول) لتجنّب انتقال الملوّثات من الشخص إلى الطعام.
بالنسبة إلى المواد الأوّلية، من المهمّ جدّاً التأكّد من أنّها تأتي من مصادر موثوقة وتخزينها بطريقة مناسبة والتأكّد من مدّة صلاحيتها، والعمل وفق "الوارد أوّلاً يخرج أوّلاً" لتجنّب انتهاء صلاحية المواد.
سنبقى صامدين
وبالعودة إلى "الجمعية اللبنانية للتعايش والانماء"، نجد أنّها نجحت وفق ما يورده حسن "في تأمين 3000 وجبة غذائية يومياً من خلال المطبخَين المتواجدَين في بعلبك وزحلة. في المقابل، تشهد تلك المنطقة قصفاً متواصلاً ودماراً كبيراً، تحاول الصمود بأهلها والمتطوّعين. ولم نكن نتوقّع أن نصل إلى هذه القدرة الإنتاجية، إذ كان مطبخنا لا يتخطّى 500-600 وجبة، أمّا اليوم نجحنا في رفع العدد أضعافاً".
واستكمالاً، لا يُخفي حسن أنّ التحدّيات كبيرة والمسؤولية أكبر. ويعترف بأنّ "حياة الناس اليوم برقبتي. لا يمكن أن أترك أهلي وناسي وأذهب. الوضع صعب، خصوصاً أنّ المنطقة تُقصف باستمرار. ولكن إيماننا بهذه الأرض وبالصمود يجعلنا نستمرّ ونبقى. الخطر موجود خصوصاً أنّني أتنقّل على الطرقات كلّ الوقت بين بيروت وبعلبك، لكن لا شيء سيمنعنا من استكمال رسالتنا".