شهدت السنوات الأخيرة الماضية تزايداً في الاهتمام برفع الوعي حول الصحة النفسية Mental Health وأهميتها. وتُعَرَّف بأن يعيش المرء حالة عقلية حسنة ومتينة، إدراكياً ومعرفيّاً، تمكنه من التعامل مع ضغوط الحياة، وتحقيق قدراته، والعمل الجيد، والمساهمة في مجتمعه.
وفي هذا العام، اختارت "منظمة الصحة العالمية" شعار "الصحة النفسية في العمل" كترسيمة لليوم العالمي للصحة النفسية في 10 تشرين الأول (أكتوبر)، مشددة على أن حُسنْ الصحة النفسية للأفراد في بيئة العمل، تشكِّل عاملاً وقائيّاً للصحة النفسية.
وفي العام 2019، قدَّرَتْ المنظمة نفسها أن 15% ممن هم في سن العمل يعانون أحد أشكال الاضطراب النفسي- العقلي. وعالمياً، يُقدَّر أن الاكتئاب والقلق يستببان في خسارة 12 مليار يوم عمل سنوياً، ومع فقدان للإنتاجية تكلفتها 1 تريليون دولار أميركي. ومع وجود 60% من سكان العالم في العمل، هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لضمان وقاية العاملين من المخاطر على صحتهم النفسية في أمكنة عملهم. وتشمل الظروف المؤثرة على الصحة النفسية في مكان العمل، التمييز والتحرّش وظروف العمل السيئة الأخرى، ما يحمل مخاطر كبيرة على البشر والإنتاجية معاً.
ما أهمية صحتك النفسية وخصوصاً في عملك؟
حديث خاص
الدكتورة نادين عقل- معالِجة نفسية وأستاذة محاضرة في جامعة الروح القدس الكسليك
أظهرت جائحة كورونا أن كثيرين يعانون اضطرابات متنوعة في صحتهم النفسية، وبالتالي، سَلَكَ الاهتمام والوعي بذلك البُعد الصحي مساره التصاعدي.
ويغفل الكثيرون أهمية الصحة النفسية التي لا تقل أهمية عن نظيرتها الجسدية، وتتأثر كلٌّ منهما بالاخرى. وقد أثبتت الدراسات هذه العلاقة. فهناك مرضى يستشيرون أطباء عدة بشأن أمراض تبدو أنها جسدية، لكن يتكشف لاحقاً أنها نابعة من أسباب نفسية تؤثر على الجسد.
وثمة مثل آخر على هذه العلاقة يتمثل بقياس محيط الخصر وعلاقته بالإجهاد. وهنالك من يتَّبِع ظاماً غذائياً صحياً لكن محيط خصره يدل على معاناته ارتفاعاً في التوتر. إذ يزيد الأخير إفراز هرمون الكورتيزول الذي يسهم في تكدس الدهون في الخصر.
التوازن قبل كل شيء
للحفاظ على صحتك النفسية، لا بدّ من إيجاد التوازن بالدرجة الأولى، عبر إدارة وقت سليمة وتوزيع اليوم بشكل صحيح بين الأوقات العائلية والمهنية والخاصة. كذلك، حاول السيطرة على الأفكار، لأنها ليست كلها صحيحة ويمكن اعتمادها. وأحط نفسك بأشخاص إيجابيين، مع الحفاظ على التواصل الاجتماعي لا سيما من أشخاص داعمين لك، بغية تعزيز الصمود والقدرة على التحمل والشعور بالراحة. وتمسّك بالنشاطات والهوايات التي ترغب بممارستها وترضيك.
لا تنقل إجهاد العمل إلى منزلك
إن عدم رعاية الصحة النفسية في مكان العمل يؤثر بالدرجة الأولى على حياة الإنسان خارج العمل ويزيد من توتره. ومن المستطاع تفادي نقل توتر العمل والإجهاد إلى المنزل عبر تطبيق مرحلة انتقالية بين المكانين. وقد تكون هذه المرحلة نزهة صغيرة أو ممارسة الرياضة أو شرب القهوة في مقهى أو تدوين بعض الأفكار؛ قبل العودة إلى المنزل. وبالتالي، ينجح الفرد في الفصل بين عمله ومنزله، ولا يفرِّغ عن وعي أو بدونه، كل إجهاد العمل وإحباطه على عائلته.
دور إدارة المؤسسات في تأمين بيئة آمنة للصحة النفسية للعاملين
حديث خاص
الدكتورة مادونا سلامة أينيان - عميدة مساعدة في كلية إدارة الأعمال بجامعة الروح القدس – الكسليك
نجاح أي مؤسسة يتعلق بإنتاجية الموظفين. وكلما زاد عطاء الموظف تنمو المؤسسة أكثر. وأصبحت الصحة النفسية في العمل محط الأنظار في عالمنا الحالي ونقطة تنافس إيجابية بين الشركات.
ثمة دور مهم لإدارة الشركة في تأمين بيئة آمنة تضمن صحة الموظف النفسية. وهنالك دور خاص لقسم الموارد البشرية في ذلك. وإلى جانب ما يناط بذلك القسم من مهمات التوظيف، التدريب والتطوير، التعويضات، إدارة العلاقات بين العمال؛ تبرز الصحة والسلامة بمعنى رعاية الصحة الجسدية والنفسية للموظفين.
وبالتالي، لا نتحدث عن مكان خالٍ من الأذى الجسدي وحده، بل نشدد على وجوب رعاية صحة الموظف النفسية أيضاً، وكذلك تحقيق التوازن بين قدرته على تحمل مسؤولية عمله وبين تمكنه من إدارة أموره الخاصة.
وبالتالي، يجب النظر إلى الموظف على أنّه بشر، إضافة إلى الوعي بأنه شخص يواجه أيضاً أموراً خاصة ويومية. لذلك، على المسؤول في المؤسسة أن يتعاطف مع الموظف عبر وضع نفسه مكانه. وفي أيامنا هذه، لا تقتصر القيادة الحقيقية على القوة والذكاء، بل تشمل القدرة على تفهّم ظروف الموظف.
وتشمل الخطوات التي تعزز صحة الموظف النفسية، إتّخاذ إجراءات تتكفل بمنع التحرش الجسدي واللفظي والجنسي، مع نشر ثقافة داخل المؤسسة تشرح هذه القوانين وعواقبها.
ويضاف إلى ذلك، تخصيص مكان للحوار مع الموظفين بحيث يمكنهم التحدث مع الإدارة بحريه حول أي موضوع أو مشكلة يواجهونها، بهدف تعريف الإدارة بها. وهنالك أهمية أيضاً لرفع التوعي بالصحة النفسية على صعيد المؤسسة، من خلال التطوير والتدريب. ويفيد ذلك في خلق علاقات ودية بين الموظفين من خلال مد الجسور بينهم. وربما يشمل ذلك تنظيم نشاطات ترفيهية غير معنية مباشرة بإنتاجية المؤسسة، مثل نزهات وورش عمل حول كيفية إدارة التوتر والتعلّم على مواجهة التحديات والصعوبات.
وفي الحاضر، تغيرت طبيعة العمل. إذ بات مستطاعاً تقديم خيارات مرنة تتيح للموظف التوصل إلى التوازن بين العمل والحياة الخاصة بأقل توتر وضغط. ويشمل ذلك التفاهم مع الموظف بشأن أوقات العمل، بما في عدد ساعات الدوام ووتيرتها، والعمل عن بُعد لعدد معين من أيام الأسبوع وغيرها.