غالباً ما نتحدث عن تأثير جائحة كوفيد_19 وما خلّفته من آثار جانبية صحية واجتماعية واقتصادية، وكأن هذا التأثير انتهى. في الحقيقة، الأمر لم ينتهِ بعد. في الولايات المتحدة وحدها، يعاني نحو 18 مليون شخص من كوفيد طويل الأمد، و65 في المئة منهم ما زالوا يعملون بشروط معيّنة وتعديلات في ساعات العمل.
الجهود العلمية المكثفة التي أثارها كوفيد طويل الأمد أنتجت أكثر من 24,000 منشور علميّ، مما يجعله الحالة الصحية الأكثر بحثًا في أيّ فترة تمتدّ لأربع سنوات في تاريخ البشرية. ومع ذلك، لا تزال الأبحاث المتعلقة بكوفيد طويل الأمد في مراحلها الأولى. ويشكّل فهم هذه الحالة خطوة حاسمة نحو تطوير استراتيجيات علاجية فعّالة وتحسين نوعية حياة المصابين بها.
ضربة "إكس إي سي" وحدودها
في الوقت الذي يواصل العلم أبحاثه لفهم تأثيرات كوفيد طويل الأمد، يستمرّ انخراط فيروس كورونا في عمليات تغيير وتبديل وتجديد لتركيبته الجينية؛ ومع كلّ عملية يتجدّد الفيروس ويتّخذ شكل متحوّر جديد (Variant). أخيراً، رصد العلماء متحوّراً جديداً عُرف باسم "إكس إي سي" (XEC)، في 27 دولة، منها ألمانيا وأوروبا والولايات المتحدة.
ينحدر XEC من مزيج بين متحورين آخرين سبق لهم الظهور والانتشار هذا العام، لكن هذا المتحور الجديد يحمل بعض الطفرات الجينية التي قد تساعده على الانتشار في الخريف.
وفق البروفيسور فرانسوا بالو، مدير معهد الوراثة في كلية لندن الجامعية، في تصريح له إلى "بي بي سي"، فإن لدى متحور "إكس إي سي" "ميزة طفيفة في سرعة الانتفال بين البشر" مقارنةً بالمتغيرات الأخيرة لكوفيد-19، ومن المحتمل أن يصبح المتغيّر الفرعيّ السائد خلال فصل الشتاء.
وهذا المسار المستمر لانتشار متحورات جديدة لفيروس #كورونا يؤكد حقيقة واحدة أن ظاهرة فيروس كورونا لم تنتهِ بعد.
متحورات جديدة لضمان بقاء الفيروس
هل علينا أن نقلق من متحور "إكس إي سي" الجديد؟
وفق رأي الاختصاصي في الأمراض الجرثومية، الدكتور عبد الرحمن البزري، "نتوقع ظهور متحورات جديدة على غرار ما تعودناه مع فيروس كورونا، حيث يحتاج الفيروس إلى التكاثر والتجدد الدائم للحفاظ على بقائه. وقد أصبح فيروساً "بشرياً". وبالتالي، وللحفاظ على قدرته على انتقال العدوى، يحتاج إلى تحوّرات جديدة بنسخ متعدّدة، معظمها يكون غير موفّق. في المقابل، تثبت بعض النسخ المتحوّرة أنها أكثر تطوراً وكفاءة من الفيروس السابق، وهي "مفيدة" بالنسبة إلى الفيروس، لأنها تُكسبه القدرة على الإفلات من قبضة المناعة الجماعية المكتسبة لدى البشر، مع ملاحظة أن تلك المناعة تأتي أساساً إما من اللقاحات أو من الإصابة بالفيروس نفسه".
يضيف البرزي: "نعرف جيداً أن المجتمعات أصبح لديها مناعة كافية من كوفيد، لذلك تحتاج الفيروسات، مثل نوع كوفيد، إلى إحداث نوع من الطفرات الجينية للهروب من المناعة المجتمعية المكتسبة لتحافظ على نفسها وتستمر. وقد شهدنا ظهور متحورات جينية لفيروس كورونا في بعض الدول. ولنلاحظ أنه لتكون المتحورات كفوءة وقادرة على العدوى، فإنّها تقدر على الانتشار بشكل أسرع، خصوصاً أن العالم أصبح "علبة" واحدة نتيجة السفر وانفتاح معظم الدول على بعضها".
واستكمالاً، يؤكّد البزري أن جزءاً من هذه المتحورات لم تُسجل في لبنان حتى الآن.
ومع الأوضاع الأمنية وتراجع حركة المطار والسفر من لبنان وإليه، فإن بعض هذه المتحورات قد تتأخّر في الوصول إلى لبنان. ومع ذلك، يشهد لبنان حركة كبيرة ونشطة لفيروس كورونا بين الناس، ومعدّل الإصابات ما زال مرتفعاً. ويجب التشديد على وجود فارق وحيد ومهم يتمثل بأن الإجراءات المتّخذة قد تغيّرت، حيث نتعامل مع كوفيد الآن باعتبار أنه شبيه بغيره من الفيروسات الأخرى التي تُسبّب الرشح والتهابات تنفسية أخرى.
فلنتعرف على كوفيد طويل الأمد
يُستخدم تعبير "كوفيد طويل الأمد" لوصف مجموعة من الآثار الصحية طويلة الأمد التي تسببها الإصابة بفيروس كوفيد. تشمل هذه الآثار الجانبية أعراضاً تنفسية مستمرة مثل ضيق التنفس، إلى جانب الإرهاق الشديد أو ضبابية الدماغ. بالإضافة إلى ذلك، قد يسهم في تدهور حالات مزمنة مثل قصور القلب والسكري.
بينما تتبادر إلى الذهن عادةً مشكلات مثل التعب والقلب والجهاز التنفسي عند التفكير في "كوفيد الطويل"، فإن تأثيراته العصبية والنفسية لا تقلّ عمقاً. هذا يجعل "كوفيد الطويل" مرضًا مزمنًا وثقيلاً.
خلال النصف الأول من عام 2024، شدّدت مجموعة من التقارير والأبحاث العلمية حول "كوفيد الطويل" على تأثيراته البعيدة المدى في جهاز المناعة، وبيّنت أنها قد تستمرّ أشهراً أو سنوات.
وثمّة تقديرات تتحدّث عن إصابة نحو 65 مليون شخص عالمياً بـ"كوفيد الطويل". وتعمل بحوث عدّة على رصد تأثيره على الاقتصاد العالمي.
تأثيرات كوفيد طويل الأمد
يواجه المصابون بكوفيد طويل الأمد أعراضاً مزمنة. تؤثر تلك الأعراض على إنتاجيتهم وحياتهم اليومية.
في هذا الصدد، يوضح البزري بأن "كوفيد الطويل هو مصطلح يشمل تنويعات مرضيّة تشمل الإرهاق وصعوبة التركيز وضيق التنفس وضبابية االدماغ. ويندرج في القائمة نفسها اختلالات في شرايين القلب والرئتين والجهاز الهضمي والجهاز العصبي، كمعاناة الخدر والتنميل".
وبحسب البزري، يعتمد تشخيص كوفيد الطويل على الفحص السريري أكثر من الفحص المخبريّ، مما يجعل احتمال الخطأ وارداً في تشخيصه. وبالتالي، ننصح الأطباء بالتأكّد من الأعراض المزمنة، والتثبّت من أن لا تكون مرتبطة بأيّ سبب مرضي آخر".
أحد أخطر وجوه كورونا
لجأت بعض المجتمعات المتطورة إلى إنشاء سجل خاص عن حالات كوفيد الطويل، بهدف التعامل معها ومراقبتها تمهيداً لتقديم خدمات للمصابين به في ظل عدم وجود علاج شافْ له، وللمساعدة في تقليل تأثيراته على حياتهم الاجتماعية والمهنية.
وبحسب البزري، ثمة شريحة واسعة تأثرت بفيروس كوفيد الطويل في لبنان والعالم العربي حتى لو لم نكن نملك سجلّاً رسمياً لها. وبالرغم من غياب الأرقام عن عدد الإصابات ونوعيتها، فإنّ تأثير ذلك الفيروس ملموس عيادياً وسريرياً.
في المقابل، يواجه لبنان ظروفاً أمنية صعبة وتحدّيات صحيّة معقّدة تشمل نقص الأدوية وغياب بعض الخدمات الطبية والعلاجات، وهذا يفرض إيلاء اهتمام وإعطاء أولوية للأمور الصحية الأهمّ. مع ذلك، يُشجّع البرزي على أن إنشاء سجلّ لكوفيد الطويل، وإرساء تعريف وطنيّ لهذه الحالة الصحية. وفي المقابل، ثمّة سؤال يطرح نفسه بشأن الجهة التي قد تدعم هذا المشروع وتموّله والقدرات التي ستوضع بتصرّفه.
إذن، هل تتحوّل ظاهرة "كوفيد الطويل" إلى تحدٍّ صحيّ مستقبليّ في ظلّ غياب علاج شافٍ له؟