صدمت مشاهد اصطفاف مرضى الأورام في طوابير أمام المستشفيات للحصول على جرعات العلاج الأوساط الليبية، وفاقمت من غضب الناس تجاه المتصارعين على السلطة في بلد يطفو على أكبر خزان نفطي في أفريقيا.
ديون تتراكم والحكومة تتجاهل
معاناة مرضى الأورام لم تقتصر على الداخل، بل امتدت إلى خارج ليبيا أيضاً، مع وقف مستشفيات في دول إقليمية عدة تقديم رعايتها لمرضى ليبيين بسبب تراكم مديونيات تكاليف العلاج وتجاهل الحكومة الليبية تسويتها.
ويعاني آلاف المرضى، وبينهم مئات الأطفال، نقصاً حاداً في الأدوية والتجهيزات الطبية، فيما تعهد رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة نهاية العام الماضي معالجة الأزمة عبر منظومة مستحدثة للتسجيل الإلكتروني، لكن على أرض الواقع لا تزال المعاناه حاضرة، بل تزداد حدّتها مع تصاعد قياسي في أعداد المرضى وارتفاع في أسعار العلاج، مدفوعَين بتراجع غير مسبوق في قيمة العملة المحلية.
محمد جمعة الذي يصطحب والدته المريضة بسرطان الرئة من مدينة أوباري (جنوب ليبيا) إلى مركز علاج الأورام في مدينة مصراتة الساحلية (غرب ليبيا) يقول لـ"النهار العربي": "قدمت منتصف العام الماضي طلباً إلى السلطات الحكومية للعلاج في الخارج، لكنه رُفض بحجة عدم كفاية الموازنة، وبأن حالتها يمكن التعامل معها في الداخل"، واصفاً العلاج في ليبيا بـ"رحلة معاناة مستمرة ولا تنتهي، تبدأ مع رحلة السفر بسبب عدم توافر مراكز لعلاج الأورام في الجنوب الليبي، وعند إجراء الفحوصات والأشعات والتحاليل الدورية وحتى الحصول على العلاج".
ويوضح: "نذهب في الصباح الباكر إلى مستشفى الأورام في مصراتة دورياً للمتابعة الطبية وإجراء فحوصات، لكن في كل مرة نلحظ تأخر حضور الطواقم الطبية ونقص أعدادها، وهو ما يتسبب في تزاحم المرضى داخل ممرات المستشفى وفي ساحته الخارجية، ناهيك بالتكدس على الأسرّة وغرف الرعاية"، مشيراً إلى "معاناة أخرى في صرف العلاجات التي يُقررها الأطباء، إذ يكون لزاماً على المريض أن يذهب صباحاً لتسجيل اسمه في كشوف، ينتظر بعدها أياماً يداوم خلالها على الذهاب إلى المستشفى حتى يأتي دوره".
ويضيف أن "المستشفى يصرف دواءً يومياً لنحو 20 مريضاً، فيما كشوف الأسماء تسجل يومياً ما يزيد عن المئة. وفي كثير من الأحيان حين يصلك الدور تجد أن بعض العقاقير غير متوافرة، وبالتالي يكون لزاماً عليك شراؤها من الخارج بأسعار مرتفعة تتدخل فيها المضاربات والسوق السوداء في حال شح هذا النوع من العلاج".
ويطالب جمعة المسؤولين بـ"النظر إلى المعاناة التي يعيشها مرضى الأورام وذووهم ومنح الأولوية لتخفيفها بدلاً من إنفاق الملايين على الاحتفالات والمظاهر الدعائية".
قرار حكومي واحتجاجات أهلية
وكانت وزارة الصحة في حكومة الوحدة الوطنية قد أعلنت مطلع الشهر الماضي، تكليف لجنة لحصر مرضى الأورام الليبيين الذين يتلقون العلاج في تونس والقاهرة، لتوفير الخدمات العلاجية لهم داخل ليبيا، لكن مجموعة من آباء أطفال يعالجون في تونس نفذوا وقفة احتجاجية أمام السفارة الليبية، بعدما أمهلهم المستشفى حتى 20 الشهر الجاري لدفع تكاليف العلاج المتراكمة وإلا يتوقف عن تقديم خدماته، والأزمة نفسها يعانيها مرضى يعالجون في المستشفيات المصرية والتركية.
علي ناجي، ولي أمر طفل مريض بالسرطان يُعالج في مستشفى في تونس، يروى لـ"النهار العربي" رحلته لعلاج نجله، موضحاً أنه اكتشف المرض الخبيث في عام 2022 قبل أن يتوجه إلى تونس وحصل على قرار بعلاج نجله هناك. ويقول: "العلاج كان يسير طبيعياً لمدة شهور. أُجريَت لنجلي ثلاث عمليات جراحية لاستئصال الورم وخضع لجرعات علاج كيماوي، قبل أن نواجه عراقيل بدأت مع منتصف العام الماضي، حتى أن المستشفى طالبنا بالعودة إلى ليبيا رغم استمرار معاناة الصغير. اكتشفنا أن ثمة مشكلات مالية تحول دون استمرار علاجه، وتواصلنا مرات عدة مع السفارة الليبية هناك للتدخل حتى يستمر العلاج".
"بمثابة إعدام بلا رحمة"
ويتساءل ناجي: "على أي أساس قررت السلطات الليبية نقل المرضى من تونس للعلاج في ليبيا التي لا تملك مراكز متخصصة في العلاج الشامل للأورام؟ يتحدثون عن توافر العلاج الإشعاعي في المستشفيات الليبية، فيما الكثير من المرضى ومنهم نجلي احتاجوا لجراحات استئصال وبعضها بتر للعضو المصاب، وبعدها يخضعون لبروتوكولات علاجية غير متوافرة في ليبيا، من بينها جرعات الكيماوي، ناهيك بالتكدس الذي تشهده المستشفيات الليبية، فكيف تتم إضافة أعداد من مرضى الخارج إلى مستشفيات لا تستوعب مرضى الداخل؟... مرضى الأورام يحتاجون عناية فائقة وخصوصاً الأطفال"، واصفاً قرار العودة إلى ليبيا بمثابة "الإعدام بلا رحمة".
"تشابك اختصاصات"
يقر مدير الهيئة الليبية لمكافحة السرطان الدكتور حيدر السايح بوجود مشكلات في ملف مرضى الأورام، عزاها إلى "تشابك اختصاصات الهيئة مع جهات حكومية أخرى، وخصوصاً في مسألة تخصيص الأموال"، مشيراً إلى أن تكدس المرضى أمام المراكز الصحية المحلية والذي جرى تداول صوره على نطاق واسع، يعود إلى "مرضى ينتظرون صرف أدوية الأورام وليس للعلاج الإشعاعي". ويضيف لـ"النهار العربي": "الهيئة حديثة النشأة وتحتاج إلى وقت للحصول على الصلاحيات كافة".
ويوضح أن قرار إعادة المرضى الذين يعالجون في الخارج "يتعلق بالمرضى الذين تتوافر علاجاتهم في الداخل الليبي، أما من يحتاج مرضه علاجاً غير متوافر محلياً، فسيستمر علاجه في الخارج إلى حين توافر العلاج في الداخل، وهناك عمليات حصر وتسجيل للمرضى في الداخل والخارج لاستبيان تفاصيل مرضهم وما إن كان علاجهم متوافراً محلياً أم لا".