عمّار شاب في مقتبل العمر، أصيب بمرض أنيميا البحر المتوسط (الثلاسيميا / التلاسيميّة)، وهو مرض وراثي يؤدي لاضطراب في خلايا الدم، وانخفاض الهيموغلوبين، ونقص كريات الدم الحمراء عن المعدل الطبيعي. كان الشاب المصري يتهيأ لزفافه، وأسرته تتوق لترى السعادة تغمر وجهه وقلبه وتعيد إليه الأمل والرغبة في الحياة.
لكن قلب عمار أصبح "مثقلاً" بالحديد الذي يترسب بداخله، بعدما غرس اليأس أنيابه في نفسه المرهقة، فقرر التوقف عن تلقي العلاج. وكلما تدهورت صحته بسبب ذلك، ازداد يأساً وإصراراً على رفض التداوي. ظل الشاب على هذا الحال لمدة عام تقريباً، حتى فارق الحياة فجأة، وكان هذا في وقت متقارب مع احتفال العالم باليوم العالمي للثلاسيميا الموافق 8 أيار (مايو).
حاول "النهار العربي" التواصل مع أسرة عمّار، لكن الحزن الجاثم على قلوبهم جعلهم يرفضون الحديث، حسبما أبلغتنا سيدة مقربة من الأسرة، كانت تتابع أحواله وآخرين يعانون من هذا المرض الذي يؤدي للوفاة في بعض الحالات.
الثلاسيميا لم يكن مرضاً معروفاً على نطاق واسع في مصر خلال العقود الماضية، لكن الأنظار بدأت تلتفت إليه في الأعوام الأخيرة مع تزايد الجهود الصحية التي تبذلها الدولة ومنظمات المجتمع المدني للتوعية بشأنه.
وقد تبين من الإحصائيات الرسمية، التي أعلنت خلال الشهر الجاري، عن اكتشاف أكثر من 32 ألف شخص مصاب بالثلاسيميا، خلال الفحوصات التي تجريها وزارة الصحة المصرية وفق مبادرة رئيس الجمهورية لفحص المقبلين على الزواج.
يأس وتدهور
السيدة التي كانت تتابع تطورات الحالة الصحية لعمّار، اسمها فايزة أحمد، وهي أيضاً والدة طفل مصاب بالثلاسيميا. تروي السيدة لـ"النهار العربي" أنه "قبل عام من وفاة الشاب، تضررت حالته النفسية بشدة، وسيطر عليه شعور بأن العلاج لا يأتي بنتيجة، وأن أعراض المرض كما هي لا تتحسن، لذا قرر التوقف عن العلاج الخاص بالحديد، برغم أن الأطباء في المستشفى الذي يتلقى العلاج به حذروه مراراً من خطورة الامتناع عن التداوي".
وتشير السيدة المصرية إلى أن "امتناع الشاب عن تناول العلاج جعل الحديد يترسب في قلبه، فدخل إلى المستشفى مرات عدة في حالة صحية سيئة، وقد طلب منه الطبيب حينئذ إجراء كشف على قلبه، ثم أخبره بأن الحديد يترسب على عضلة القلب ويؤثر عليها بدرجة كبيرة، ما جعل نفسيته تسوء أكثر، ويشعر أنه لا أمل في تحسن صحته".
وتروي أن "طبيبه نصحه أن يتابع مع اختصاصي قلب، وبالفعل تابع مع طبيب متخصص في هذا المجال، وقد أخبره أنه بحاجة لإجراء قسطرة ليرى ما إذا كان يحتاج لعملية أم لا، وفي اليوم الذي كان مقرراً إجراء عملية القسطرة فارق الحياة".
العلاج و"التنمر"
ميرفت يكن سيدة مصابة بهذا المرض، تحولت إلى ناشطة لدعم من يعانون من الثلاسيميا، وتقول لـ"النهار العربي": "نحن نواجه مشكلات بسبب تأخر العلاج منذ 3 شهور، ولا نعرف السبب في هذا التأخير. نناشد وزارة الصحة بتوفير العلاج، لأن سعره مرتفع للغاية، ولو لم توفره الدولة فلن يستطيع أغلب المرضى الحصول عليه".
وحاول "النهار العربي" الحصول على تعليق من مسؤولي وزارة الصحة، والهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي بشأن الشكوى من عدم توافر دواء الثلاسيميا، لكن لم يتم الحصول على رد رسمي، إلا أن مصادر طبية أكدت لنا أن الجهات المعنية تعمل على توفير الدواء في أقرب وقت ممكن.
وتقول يكن "العلاج هو عبارة عن حبة دواء تساعد الجسم على التخلص من الحديد الزائد في الدم، بدلا من ترسبه في عضلة القلب ما يقود للوفاة إذا لم يتم تدارك المشكلة".
وبرغم المناشدة التي أطلقتها السيدة المصرية لفتت إلى أنه "يجب أن أؤكد أن الاهتمام الكبير بمرضى الثلاسيميا، الذي شهدناه خلال السنوات العشر الأخيرة، لم نر له مثيلاً من قبل، فقد صرنا نذهب إلى المستشفى بكراسة المتابعة والتحاليل، فيمنحوننا العلاج مجاناً".
وتشير يكن إلى أن "الأشخاص الذين فارقوا الحياة، خلال الفترة الأخيرة، ليس بسبب تقصير من الأطباء المعالجين، ولكن إما لعدم توافر الدواء، أو لأن المرضى أنفسهم يرفضون الالتزام بالعلاج".
وتتحدث عن إشكالية أخرى تواجه مرضى الثلاسيميا، وهي أنه بات مطلوباً منهم أن يجروا أشعة رنين مغناطيسي بصورة دورية، كل ثلاثة أشهر، وتقول إن "هذا مكلف جداً، كما أنه خطر على خلايا الجسم التي نحصل على العلاج من أجل الحفاظ عليها، هذا الرنين يدمرها بشكل منتظم".
وعن كيفية توفير تكاليف أشعة الرنين التي بات إجراؤها إلزامياً، تقول "إنها عملية صعبة، لكن ثمة من يحاولون تقديم الدعم، وهناك على سبيل المثال طبيب محترم (اسمه خالد عبد العظيم) يتكفل بعمل هذه الأشعة على نفقته الخاصة لآلاف المرضى، وهذا عمل إنساني منه، لكن نرجو أن تساعدنا الدولة في الحصول على تخفيضات على هذه الأشعة والتحاليل التي نجريها".
وإلى جانب إشكالية عدم توافر الدواء، والرنين المغناطيسي، تتطرق يكن إلى إشكالية أخرى تراها لا تقل أهمية، وهي متعلقة بالمجتمع المصري، وتقول: "نحن بحاجة إلى مجتمع لا "يتنمر" علينا. يعاني أطفال الثلاسيميا الكثير من التنمر بسبب مظهرهم الخارجي، وأنا نفسي تعرضت في طفولتي لهذا التنمر، وكان الأطفال يقولون عني "البنت الصفراء"، وهذا بسبب شحوبي واصفرار لون بشرتي، كما أن المدرسين كانوا يتهامسون بشأني".
وتشدد على أن "الجانب النفسي عامل مهم للغاية في العلاج، لهذا نحن بحاجة إلى المزيد من التوعية بهذا المرض لأن هذا يوجد فارقاً في نظرة الناس إلى المرضى، ويوقف التنمر، كما يساعد على وجود مجتمع وبيئة داعمة تحيط بنا".
جهود منظمة
أستاذة طب الأطفال وأمراض الدم في كلية طب القصر العيني الدكتورة آمال البشلاوي، هي رئيسة الجمعية المصرية لمرضى أنيميا البحر المتوسط، التي أُسِّست عام 1990، وانضمت للجمعية الدولية لأنيميا البحر المتوسط عام 1992. وعلى مدار أكثر من 25 عاماً تتابع حالة مرضى الثلاسيميا في مصر، كما أن البشلاوي شاركت بأبحاث مهمة نشرت في دوريات علمية دولية مرموقة أملاً منها في إيجاد حلول لهذا المرض.
تقول البشلاوي لـ"النهار العربي": "الثلاسيميا مرض منتشر جداً في مصر، ويولد كل عام قرابة 2000 طفل مصاب به"، لافتة إلى أن "البعض يعتقد أن الثلاسيميا هي نتيجة لزواج الأقارب، وهذا غير صحيح، فيمكن لاثنين يحملان هذ المرض أن ينجبا طفلا مصاباً به، دون أن تظهر عليهما أعراض المرض".
وتضيف أن "25 بالمئة من كل حمل، يولد طفل مصاب. والثلاسيميا هي مرض تكسيري مزمن، لأن تكوين الهيموغلوبين داخل الخلية البشرية يكون غير منضبط. والأطفال يحملون جينات من الأم والأب، فإذا كان الوالدان مصابين بالمرض وصفاته متنحية لديهما، يمكن أن ينجبا طفلاً مصاباً بالمرض، وتظهر أعراضه عليه".
وتشير أستاذة أمراض الدم إلى أن "هناك ثلاسيميا شديدة قد تجعل الطفل محتاجاً لنقل الدم وهو في عمر 6 أشهر، ويستمر هذا الأمر مدى الحياة. ويحتاج المريض إلى دواء للتخلص من الحديد الذي ينتج عن تكسير كرات الدم الحمراء، وإذا لم يحصل على الدواء تكون هناك مشكلة".
وتوضح البشلاوي أن "الإشكالية تكمن في أن الحديد قد يستقر في الكبد ويضره، أو يستقر في البنكرياس وينتج عنه عن مرض السكري، أو يستقر في القلب مما يؤثر على عضلته، لذا يحتاج المرضى للمتابعة المستمرة لوظائف القلب، والكبد، والبنكرياس، وإذا استمر المريض على نقل الدم (إذا كانت حالته تحتاج ذلك)، وتناول الدواء اللازم للتخلص من الحديد، فإنه قد يعيش حياة أقرب إلى الطبيعية".
وتلفت إلى أن إشكالية الدواء هي "أنه مرتفع الثمن، وإذا لم تساهم الدولة في توفيره فقد يعجز غالبية المرضى عن الحصول عليه. كما أن ثمة نقصاً دائماً في أكياس الدم اللازمة، لهذا نحن بحاجة إلى المزيد من حملات للتبرع بالدم باستمرار".