أظهرت الدراسات أن التباعد الاجتماعي الذي فُرض أثناء جائحة كورونا أسهم في زيادة مجموعة من الاضطرابات النفسية، خصوصاً بين الأطفال والمراهقين والشباب. ويضاف إلى ذلك أنها ولّدت تأثيرات اقتصادية هائلة ما زال جزء منها مستمراً، إضافة إلى تأثيرات اجتماعية وثقافية متنوعة.
ومثلاً، أظهر استقصاء أجرته مراكز أبحاث عدة من أوروبا وشمال أفريقيا وغرب آسيا وأميركا على عيّنة من 10 آلاف شخص، أن معدّلات الإصابة بالقلق والاكتئاب تضاعفت بعد الجائحة، بسبب التباعد الاجتماعي. وكذلك أثرت الإجراءات على الصحة النفسية للأطفال بأثر من التعليم عن بعد والتباعد والعزلة.
فاوتشي وذاكرة جائحة كوفيد 19
بعد سنوات من هذه الإجراءات الصارمة التي فُرضت على العالم كله، أتت التصريحات الأخيرة لكبير المستشارين الطبيين في إدارتي دونالد ترامب وجو بايدن أنتوني فاوتشي عن إجراءات التباعد الاجتماعي أثناء الجائحة، لتثير عاصفة من نقاشات الرأي العام حولها، خصوصاً أن كثيرين تداولوها بطريقة مجتزأة وغير دقيقة، فتفاقم الجدال والإثارة حولها.
فقد جرى التداول إعلامياً، بصورة مغلوطة، أن فاوتشي نفى وجود أساس علمي لإجراءات التباعد الاجتماعي أثناء الجائحة. كذلك نُقِل عنه، من دون تدقيق كافٍ، أن قاعدة التباعد الاجتماعي لمسافة ستة أقدام لا تستند إلى أي تجارب أو دراسات، ولم تعطِ التأثير المتوقع في إبطاء انتشار الفيروس. وذهبت بعض المواقع الإعلامية إلى حد إظهار أن فاوتشي اعتبر التباعد الاجتماعي إجراءً غير مجدٍ ولا ضروري إلى حدّ إمكانية الاستغناء عنه آنذاك. وإذا أُخذ في الاعتبار التأثير الزلزالي على الاقتصاد العالمي ومسارات المجتمعات والدول لتلك الإجراءات، يكون ما يجري تداوله بشأن تصريحات فاوتشي تسونامي بلا حدود، لولا أن ذلك التداول نفسه لم يتوخّ تحرّي الحقيقة. ويذكّر ذلك بأن تلك الإجراءت، بما في ذلك الكمامة، دخلت أثناء زمن الجائحة، في دائرة الصراعات السياسية، خصوصاً في أميركا.
وفي الوقائع، يرد أن فاوتشي أدلى بهذه التصريحات أمام اللجنة الفرعية المعنية بجائحة فيروس كورونا في مجلس النواب الأميركي ضمن جلسة الاستماع الأولى له منذ تقاعده من الخدمة الحكومية، حول استجابة الولايات المتحدة الأميركية لجائحة كورونا.
الرذاذ والمتران والكمامة
بالعودة إلى مقابلة فاوتشي التي اقتُطعت الأحاديث المتداولة منها، تبيّن أنه أخبر مجلس النواب أن التوجيهات بالتقيّد بمسافة 6 أقدام في التباعد الاجتماعي للحد من انتشار الوباء لم تصدر عنه بل جاءت من "مراكز السيطرة على الأمراض"، وهي مرجعية طبية أميركية وعالمية. وبالتالي، فإن تلك المراكز مسؤولة عن توجيهات التباعد الاجتماعي، بما في ذلك التي شملت المدارس.
وكذلك جرى تداول أن فاوتشي نفى وجود أساس علمي لتلك الإجراءات. والواقع أنه كاختصاصي في الأوبئة، أشار إلى غياب التجارب السريرية المباشرة كأساس لإجراءات التباعد. وشدد على أن الأخيرة استندت إلى دراسات علمية مديدة عن أوبئة الأمراض التنفسية وكيفية انتشار عناصر العدوى عبر قطرات رطبة على غرار العطس. ولفت إلى وجود دراسات عن القطرات في دراسات عدة استُخدِمَتْ كسند علمي للتوصية بالتباعد 6 أقدام. وحينما صدرت هذه التوجيهات، ظن العلماء أن حبيبات الرذاذ الملوثة الكبرى لن تنقل في مسافة أبعد من 6 أقدام. في المقابل، دعت منظمة الصحة العالمية إلى التقيد بمسافة 3,3 أقدام (حوالي متر واحد)، واعتبرت إجراءات الولايات المتحدة صارمة للغاية، مشيرة خصوصاً إلى صعوبة تأمين تلك المسافة في المدارس، ما استدعى الاستمرار بالتعليم عن بعد بالنسبة لمدارس عدة.
وفي منحى علمي يثبت صحة إجراءات التباعد لمترين، تبيّن للعلماء منذ بداية عام 2021، أن الفيروس ينتشر عبر الهواء، ما يعطي سنداً للتباعد بمسافة 6 أقدام. وكذلك يساند الأمر نفسه الإجراءات المتشددة بشأن اعتماد الكمامات للحد من خطر نشر والتقاط العدوى عبر الهواء.
واستطراداً، نفى فاوتشي في حديثه إلى النواب الأميركيين عدم صحّة توصية "مراكز ترصّد الأمراض"، بل أوضح أن فيروس الوباء كان جديداً، وبالتالي، لم تكن هنالك دراسات خاصة عنه بالتحديد، فاستندت توصيات تلك المراكز إلى الدراسات الوبائية عن أمراض فيروسية مشابهة. وبالتالي، ووفق ما أوضحه فاوتشي في جلسة الاستماع النيابية، فإن إجراء أي دراسة عن فيروس الوباء الجديد آنذاك، يكون مسألة في غاية الصعوبة.
في كل الحالات، يؤكد الخبراء أن التباعد الاجتماعي أسهم في إنقاذ الأرواح قبل توافر اللقاح، أي في الفترة الأولى من انتشار الوباء. فقد ساهمت مثل هذه السلوكيات بالفعل في حماية الكثيرين في فترة معينة إلى أن توافر اللقاح فأصبح الوسيلة الفضلى لوقف انتشار الوباء على نطاق واسع.
والأرجح أن استدعاء فاوتشي إلى جلسة مساءلة في مجلس النواب الذي يسيطر عليه الحزب الجمهوري الذي مال بمعظمه إلى معارضة الكمامة والتباعد أثناء الجائحة، أمر يصعب ألا يذكّر بالصراع السياسي الحاد في أميركا. والأرجح أيضاً أن "اليد الخفيّة" للسياسة أدت دوراً في نشر اقتباسات مجتزأة وغير دقيقة ممّا أدلى به فاوتشي أمام مجلس النواب الأميركي.