بعد سجال طويل في هذا المجال، ألغت المحكمة العليا الأميركية حكماً أصدرته محكمة استئناف، وفرض قيوداً على عقار "ميفيبريستون" الذي تستخدمه النساء في معظم حالات الإجهاض في الولايات المتحدة.
وقد صدر القرار بالإجماع بشأن إلغاء القيود على "ميفيبريستون" ليكرّس حق المرأة بالحصول على ذلك الدواء، وبالتالي على الإجهاض. وجاء القرار عقب دعوى تقدمت بها منظمات مناهضة للإجهاض ومجموعة من الأطباء.
سجال عن الحق بالإجهاض
وكانت "إدارة الغذاء والدواء" FDA الأميركية قد ألغت القيود أمام حصول النساء على العقار نفسه في عام 2016. بعد ذلك أصدرت محكمة الإستئناف التي تضمّ قضاة من المحافظين المتشدّدين، قراراً أعادت فيه فرض العديد من القيود أمام حصول النساء على عقار "ميفيبريستون"، في عام 2023.
وفي القرار الذي اصدرته المحكمة الآن، اعتبرت أن المدّعين لم يبرهنوا أن تخفيف قواعد "إدارة الغذاء والدواء الاميركية" يمكن أن يكون مضرّاً.
كذلك أوضح القرار أنه يمكن للمدّعين الاعتراض على إجراءات "إدارة الغذاء والدواء" الأميركية عبر مراجعة السلطتين التنفيذية والتشريعية.
وقد رحّب الرئيس الأميركي جود بايدن بهذا القرار الذي يكرّس حق المرأة في الإجهاض. وأكّد على أن استمرار النضال من أجل الحفاظ على حق المرأة في الإجهاض. وأشار إلى أن حصول المرأة على العلاج هو مهدّد، او أنه مستحيل في عدد من الولايات التي فرضت قيوداً صارمة على الأدوية المماثلة.
وذكَّر بايدن بأن تهديد الحق في الحصول على ذللك العلاج تصاعد عقب صدور قرار تاريخي في عام 2022، ترك المجال مفتوحاً لكل ولاية لتحديد حقوق الإجهاض فيها، ما دفع بعض الولايات المحافظة إلى منع الإجهاض بشكل شبه تام.
نضال طويل وإنجازات للحركات المدافعة
تجدر الإشارة إلى أن قضية الإجهاض والحقوق الإنجابية وحق المرأة في الحفاظ على الجنين أو اختيار الإجهاض، من القضايا الجوهرية في المجتمع الأميركي الذي عرف نضالاً طويلاً عبر التاريخ في هذا المجال. وقد حدثت مواجهات كثيرة بين المدافعين عن هذا الحق والمناهضين له.
وفي الواقع، تعود جذور هذا النضال إلى القرن التاسع عشر. ومرّت هذه القضية بعقود من النضالات، فيما لم تكن ممارسة الإجهاض موضع جدل في وقت من الأوقات. وبشكل خاص، بدأت تُطرح هذه القضية في منتصف القرن التاسع عشر، حينما بدأت جهات معينة تتطرّق إلى مسألة شرعية الإجهاض من عدمه.
وفي الفترة الممتدة بين القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر، كانت الإجراءات الجراحية للإجهاض قليلة جداً. وفي المقابل، غلبت الأعشاب وعقاقير الإجهاض كوسائل محفّزة على الإجهاض.
وفي ذاك الوقت، كان الإجهاض يُمارس مع النساء المستعبدات بطرق غير شرعية، باعتبار أنهن كُنَّ من الحالات المستثناة في القانون بما أنه كان يحرمهن من الحق بالإجهاض. ومع ذلك، جرت عمليات الاجهاض سراً وبطرق غير شرعية غالباً.
وعلى الرغم من إلغاء العبودية في عام 1865، استمر حظر الإجهاض على النساء ذوات البشرة السمراء. لكن على مدار سنوات تالية، حصل ضغط كبير من قِبَل جماعات مدافعة عن حق المرأة بالإجهاض، إلى أن وصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم، وإن كانت الرئاسة الأميركية تعتبر أن طريق النضال في هذا المجال لا يزال طويلاً.
تأثير الحركة النسوية والحقوق المدنية
في الفترات التي شهدت حظر الإجهاض، كانت الأمور تجري بشكل سرّي بالاعتماد على وسائل غير آمنة. لكن في فترة الكساد الإقتصادي في الولايات المتحدة، بات الأطباء يجرون عمليات الإجهاض في عياداتهم علناً من دون أن يلقوا أي عقاب. ولربما بُرِّر التهاون في ذلك المجال، بالضغوظ الناتجة من الظروف الاقتصادية.
وتشير أرقام معهد "جوتماشر" البحثي المعني بالحقوق الجنسية والإنجابية في الولايات المتحدة الأميركية، إلى أن أرقام عمليات الإجهاض غير الشرعية بين عامي 1950 و1960، تراوحت بين 200 ألف عملية و1,2 مليون عملية سنوياً.
لكن، في ستينيات القرن الماضي، ساهمت الحركة النسوية بالتزامن مع حركة الحقوق المدنية في تشريع الإجهاض.
وحينها، برزت خدمات الإجهاض الآمن السرّي التي عُرفت باسمها الرمزي "جين" في ولاية شيكاغو بدعم من الحركة النسوية في الفترة الممتدة بين عامي 1969 و1973. وشهدت تلك الفترة ما لا يقلّ عن 11 ألف عملية إجهاض آمنة.
في الوقت نفسه، برزت قضية "رو ضدّ وايد"، تحديداً في عام 1969. واعتبرت هذه من القضايا التاريخية التي ساهمت في إقرار الحق بالإجهاض في الولايات المتحدة الأميركية. وآنذاك، صدر قرار اعتُبِر تاريخياً في العام 1973، إذ أقر الحق بالإجهاض في المحكمة العليا الأميركية بتصويت أكثرية أعضائها 7 لمصلحته في مقابل 2 رافضين. أما اسم "رو ضدّ وايد" فيشير إلى اسم مستعار "روج جين" للمدّعية نورما ماكورفي التي لجأت إلى محاميتين نسويتين لدعمها في الحصول على الحق بالإجهاض في حملها الثالث في العام 1969.
وصحيح أن السيدة أنجبت ولم تجهض، إلّا أن القضية ساهمت في تشريع الإجهاض أخيراً في كافة أنحاء الولايات المتحدة الأميركية. إذ يحمي قانون "رو ضدّ وايد" حق الأميركيات في الإجهاض حتى اللحظة التي يستطيع فيها الجنين العيش خارج الرحم، أي في الأسبوع الـ24 من الحمل. هذا، فيما تُرك لحكومات الولايات حرّية تقييد الممارسة.
وفي قرار يعود إلى عام 1992 كرّست المحكمة العليا حق المرأة في أن تنهي طوعاً حملها طالما أن الجنين غير قادر على البقاء على قيد الحياة خارج الرحم.
لكل بلد قوانينه
لقد وصل النضال في مجال الحق بالإجهاض في الولايات المتحدة الأميركية إلى حظره في ولايات مقابل السماح به في ولايات أخرى.
لكن، لكل دولة قوانينها في التعامل مع هذه القضية. في فرنسا مثلاً، يأخذ القانون في الاعتبار دواعي الإجهاض لأسباب اقتصادية أو طبية أو اجتماعية. ويُسمح بالإجهاض في تلك البلاد في حوالى الأسبوع الـ14 من الحمل، فيما يُمنع بعدها. لذلك، تتوجّه كثيرات إلى دول أخرى تسمح بالإجهاض بعد هذه الفترة، مثل هولندا التي تسمح بالإجهاض حتى بلوغ الحمل الأسبوع الـ18 أو 19، وفق ما يوضحه الطبيب الاختصاصي في الجراحة النسائية والتوليد الدكتور جوزيف غنيمه. وكذلك أوضح أن الدافع قد يكون طبياً اجتماعياً، لأن الطفل يعاني تشوهات أو أنه مصاب بالثلث الصبغي.
وأضاف غنيمة أنه قد يتبيّن أن جنينياً ما لن يتمكن من العيش، وحينها، يُتخذ قرار بالإجهاض.
ومن الدوافع التي يمكن أن تستدعي الإجهاض بحسب القانون الفرنسي، الدافع العلاجي، حيث يمكن ان يشكّل الحمل خطراً على حياة المرأة، ما يستدعي وضع حدّ له لحمايتها. في مثل هذه الحالات، يُسمح بالإجهاض في فرنسا.
الإجهاض في لبنان ممنوع في مطلق الحالات، إلّا إذا كان الحمل يشكّل خطراً على حياة المرأة. أما غير ذلك فلا يُسمح بالأمر.
وانطلاقاً من ذلك، من المفترض إثبات أن حياة المرأة في خطر بسبب الحمل كي يصبح ممكناً اللجوء إليه. وفي الإطار نفسه، لا تُعطى الأدوية المحفّزة على الإجهاض إلّا بوصفة طبيب تؤكّد أن ثمة خطراً على حياة الحامل، ما يستدعي اللجوء إلى الإجهاض. وكل ما يجرى من عمليات إجهاض هي مخالفة للقانون وتُجرى تحت الطاولة.
وإذا كانت الكنيسة تعتبر الجنين كائناً حياً من لحظة التكوين، هو كذلك في الدين الإسلامي من اللحظة التي يمكن فيها سماع نبضات قلبه. فمن بعدها هو كائن حي ولا بدّ من الحفاظ عليه.