في الآونة الأخيرة برز القلق من التغيّرات المناخية وتأثيرها على الصحة العقلية كموضوع محوري في النقاشات العامة. غير أن الخوف من هذه التغيرات لا يعكس جميع الجوانب المتعلقة بالموضوع.
تساهم الأبحاث العلمية مساهمةً كبيرة في فهم الآثار الضارة للتغيّر المناخي، خصوصاً الزيادات الكبيرة في درجات الحرارة على الصحة العقلية. وقد أكد التقرير التقييمي الأخير من "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ" IPCC بثقة عالية أن الارتفاع في درجات الحرارة العالمية أثر سلبياً على الصحة العقلية في بلاد كثيرة.
ووفق التقرير، تُشير الدراسات إلى أن موجات الحر قد تؤدي إلى زيادة في عدد من يدخلون المستشفيات بسبب مشكلات عقلية، وكذلك الطلب على الخدمات العقلية الطارئة. وخلال فترات ارتفاع الحرارة، يتعرض من يعانون مشكلات عقلية للوفاة أكثر من غيرهم.
كذلك وجدت الدراسات أن هناك زيادة في معدلات الانتحار مع ارتفاع درجات الحرارة، وقد تتزايد هذه المعدلات، على الرغم من أن العلاقة بين الانتحار والتغيّر المناخي معقدة وتتأثر بعوامل أخرى. وهناك فجوات معرفية كبيرة بشأن التفاعلات بين الصحة العقلية والحرارة في المناحي البيولوجية والنفسية والاجتماعية والبيئية. ومن الضروري أن يبذل صانعو السياسات جهوداً أكبر، لأن الصحة العقلية لا تزال بعيدة عن السياسات والالتزامات المتعلقة بالمناخ.
الحرارة وتأثيرها النفسي المتباين
التعرّض لموجة حرارية قد يغمر الإنسان بشعور شامل بعدم الراحة، ما قد يؤدي إلى زيادة الشعور بالعصبية والضغط النفسي. وقد ينعكس ذلك انعكاساً غير مباشر على السلوكيات العامة. وتشير الدراسات إلى أن الناس يميلون إلى نشر تعليقات سلبية على وسائل التواصل الاجتماعي خلال فترات الحر الشديد.
وكذلك تُظهر الدراسات أن الارتفاع الشديد في درجات الحرارة يؤثّر سلباً على جودة النوم. ويعاني سكان البلدان القليلة الدخل تدهوراً في جودة النوم بمعدل ثلاثة أضعاف بالمقارنة مع غيرهم. وقد يعاني الجميع صعوبة النوم خلال الليالي الحارة والرطبة، إلا أن أصحاب المشكلات النفسية قد يواجهون مخاطر متزايدة، بمعنى أن مشكلاتهم قد تتفاقم مع قلة النوم.
لكن ليس كل تأثير الحرارة سلبياً على الصحة العقلية. يشعر الكثيرون بالسعادة أكثر في الأيام المشمسة، وفق بعض الدراسات.
ومثلاً، أظهرت دراسة في سويسرا عام 2023 أن المزاج العام للسكان يتحسن مع ارتفاع درجة الحرارة، فيما قد يضطرب مزاج المصابين بالقلق والاكتئاب والذهان.الحرارة وتأثيراتها النفسية المتعددة
إن تأثير الارتفاع الشديد في درجات الحرارة على الحالة النفسية للأفراد قد يُخلِّف تداعيات على السلوك الاجتماعي والتفاعلات بين الناس. وتشير دراسات مُتزايدة إلى وجود علاقة بين الحرارة المرتفعة وتصاعد السلوكيات العدوانية، مثل الاعتداءات والجرائم العنيفة.
ومثلاً، أظهرت دراسة في الهند ونيبال وباكستان أن زيادة درجة الحرارة السنوية بمقدار درجة مئوية واحدة ترتبط مع زيادة بـ4.5% في الأعمال العنيفة. ويدل ذلك إلى تأثير الحرارة على الحالة النفسية، مع تذكر وجود عوامل مؤثرة أخرى.
في إطار العوامل الاجتماعية أخرى، فإن الأشخاص الذين يعانون مشكلات نفسية قد يكونون أكثر حساسية للحرارة العالية في ظل ظروف اجتماعية معينة.
وبالنظر إلى العلاقة بين الفقر والمشكلات النفسية، قد يكون هناك عدد أكبر من المضطربين نفسياً ضمن البيئات السكنية الأقل كفاءة في استخدام الطاقة، أو ذات الإمكانيات المحدودة للتكيف مع الحرارة عبر استخدام المكيفات مثلاً. وقد تعيش تلك الفئة في عزلة اجتماعية، أو يعمل أفرادها في مهن تعرضهم للحرارة أكثر.
يُذكر أن بعض الأدوية المستخدمة لعلاج المشكلات النفسية، كمضادات الاكتئاب ومضادات الذهان، قد تؤثّر على قدرة الجسم على تنظيم درجة الحرارة، ما يجعل الأشخاص الذين يتناولونها أكثر عرضة للخطر في الأجواء الحارة. وقد يفسر ذلك كون هؤلاء الأشخاص أكثر عرضة للدخول إلى المستشفى أو حتى الوفاة خلال موجات الحر.
في العام الماضي، أوردت "المجلة الطبية البريطانية" حالة مريض في بريطانيا يتناول مضادات الذهان، ويعاني تأثيرات الحرارة الشديدة. وقد ذكر أنه عانى صعوبة في تحمل الحرارة مع تزايد الظروف المناخية القاسية في بريطانيا. وقد عانى التعرق الشديد والشعور بالتعب والإرهاق وصعوبة التفكير، ولم يدرك أن ذلك مرتبط بالأدوية التي يتناولها.
التفاوت والفجوات البحثية
على الرغم من أن الدول النامية تتحمل العبء الأكبر من التأثيرات السلبية لتغّير المناخ، إلا أن البحوث التي تتناول كيفية تأثير هذه التغيرات على الصحة النفسية لسكانها لا تزال نادرة.
ويرجع ذلك إلى عوامل عدة تشمل قلة الموارد، وضعف البنية التحتية للبحث العلمي، وتركيز أولويات البحث على قضايا مثل الفقر والأمراض.
ونتيجة لذلك، تظل الحاجة ماسة إلى دراسات تُقيّم الأثر النفسي للتغيّرات المناخية وتُطور استراتيجيات للتخفيف منه ودعم الصمود النفسي للمجتمعات المُتضرّرة. إن تعزيز القدرات البحثية في هذه الدول وتوجيه الاهتمام العالمي نحو هذه القضية يُمكن أن يُسهم في سد هذه الفجوة وتحسين الاستجابة للتحديات النفسية المرتبطة بتغير المناخ.
تأخّر السياسات في البعد النفسي للمناخ
تواجه عملية صياغة السياسات بشأن البُعد النفسي للمناخ تحديّات كبيرة. وفي الوقت الحالي نادراً ما تُدرج الدول الاعتبارات النفسية ضمن خططها الاستراتيجية لمكافحة التغيّرات المناخية، كالاستعداد لموجات الحر. ومثلاً، لم تتضمن سوى 3% من الالتزامات الوطنية ضمن "اتفاقية باريس للمناخ" إشارة إلى الصحة النفسية.
تُعتبر مناطق جنوب أستراليا حالة لافتة في هذا الصدد. إذ يتضمن نظامها للتحذير من الحرارة تنبيهات عامة، إرشادات صحية، ودعماً خاصاً للأفراد الأكثر تأثراً بالحرارة، بمن في ذلك أصحاب الاضطرابات النفسية، ما يضمن توفير المساعدة اللازمة لهم. وفي أثينا، يُعيّن علماء نفس لدعم كبار السن الذين يعانون العزلة خلال فترات الحرارة الشديدة.
وتبرز دولة الإمارات كمثال آخر للتقدم في هذا المجال. إذ أعلنت خلال مؤتمر "كوب 28" COP28 عن تحديثات في سياستها وخططها الوطنية للتعامل مع تأثيرات التغير المناخي على الصحة.
أثبتت السياسات التي تُعزز الاتصال بالطبيعة وتُحسن الوصول إلى المساحات الخضراء والمائية، وكذلك سياسات النقل التي تشجع على النشاط البدني، أنها تُحقق فوائد للبيئة والصحة النفسية.
يُعد التغير المناخي حالياً أحد أكبر التهديدات للصحة الجسدية والنفسية على مستوى العالم. فالحرارة المفرطة تُسبب وفيات أكثر من الأعاصير والفيضانات والعواصف مجتمعة. كما أن الإجهاد الناجم عن الحرارة يُمكن أن يُفاقم من الأمراض المزمنة كأمراض القلب والسكري والربو، ويزيد من خطر الحوادث وانتشار الأمراض المعدية. ولا تزال التكاليف الخفية الناتجة من زيادة الاضطرابات النفسية غير مُقدّرة تقديراً كافياً.