في مواجهة أي وباء، يصعب ضبط الأمور والسيطرة على معدلات انتشاره بغياب اللقاح. وهذا ما كانت تجربة وباء كورونا قد أثبتته في مرحلة سابقة. اليوم، فيما يكثر الحديث عن وباء جدري القردة، الذي حذّرت منه منظمة الصحة العالمية كوباء عالمي، مع ارتفاع معدلاته في دول عديدة في العالم، تُطرح تساؤلات عديدة حول مدى جهوزية القطاع الصحي في لبنان في مواجهة الأوبئة، وبشكل خاص حول مدى سهولة آليات توفير اللقاحات في مثل هذه الظروف، خصوصاً في ظل تأكيدات عن أن لقاح جدري القردة ليس متوافراً في لبنان، حتى يكون من الممكن اللجوء إليه مع انتشار المرض بمعدلات أعلى.
مسؤولية الدولة في تأمين اللقاحات
خلال الأزمة، تبين أن القطاع الخاص لعب دوراً جوهرياً في النهوض بالقطاع الصحي، في مقابل كل التحدّيات التي واجهها القطاع الرسمي منفرداً في ظلّ الضائقة المالية. لكن يبدو أن الأمور تختلف في مواجهة الأوبئة، وثمة آلية معينة لتأمين اللقاحات، بحيث لا يمكن الخروج عنها أو تخطّي القطاع الرسمي في هذا الإطار. هذا ما تؤكّده طبيبة الأمراض الجرثومية في المركز الطبي للجامعة اللبنانية الأميركية-مستشفى رزق الدكتورة رولا حصني سماحة، مشيرةً إلى أن الدولة هي المسؤولة الأولى عن توفير اللقاحات في مواجهة أي وباء في البلاد، حتى يحصل عليها القطاع الخاص عبرها في خطوة ثانية. هذا تحديداً ما حصل في مواجهة وباء كورونا وما يحصل في مواجهة أي وباء يمكن أن يحقق انتشاراً في البلاد. فبشكل عام، لا يمكن للقطاع الخاص إدخال لقاحات إلى البلاد ما لم يحصل ذلك عبر الدولة بالدرجة الأولى. وهذا ما يساهم في انقطاع لقاحات كثيرة منذ الأزمة إلى اليوم، فيما لا يمكن للقطاع الخاص العمل على تأمينها. ومن اللقاحات غير المتوافرة حالياً لقاح الكباد "ب" ما تعتبره غير مقبول، كونه من اللقاحات الأساسية التي لا يمكن أن يحصل انقطاع فيها.
تقول سماحة: "ثمة برامج للقاحات تضعها الدول، ويتمّ الالتزام بها وتعمل الدولة على تأمين اللقاحات. وحتى في حال انقطاعها لا يمكن للقطاع الخاص التدخّل لتأمينها. فهناك سلسلة تبريد لا بدّ من الحرص عليها في نقل اللقاحات من الخارج، بوجود معايير معينة صارمة في النقل والتخزين مع برادات مجهزة عند النقل والاستلام، مع الحرص على عدم انقطاع الحرارة عن اللقاحات في أي وقت من الأوقات. حتى أنه في المستشفيات، نشدّد على ألّا يُحضر المريض معه لقاحاً، حرصاً على جودته وسلامته. في كل الحالات، لا يُعتبر إحضار اللقاحات ممكناً للقطاع الخاص، بغض النظر عمّا إذا كانت مقطوعة أم لا، ولا يمكن شراؤها من خارج لبنان".
في فترة انتشار وباء كورونا، فرضت الظروف تجمعاً دولياً وتضامناً بهدف تأمين اللقاحات في لبنان بأسرع وقت ممكن، كما حصلت مساعٍ لتأمينها في مختلف الدول للسيطرة على الوباء. لكن، حتى في تلك المرحلة، كانت هناك معايير معينة لإحضار اللقاحات وحفظها وتوزيعها في مراكز التلقيح، مع إشراف لجهات معينة على تطبيق هذه المعايير بشكل صارم. انطلاقاً من ذلك، على إثر إجراءات معينة وآلية، أحضرت الدولة لقاح كورونا وتمّ توزيعه على المراكز وفق معايير معينة. وأياً كان الوباء المعني، يتمّ إحضار اللقاحات في لبنان بالطريقة نفسها ووفق الآلية عينها. أما إذا كان هناك انتشار محلي لوباء معين، كما في حال انتشار وباء الكوليرا ضمن فئات معينة، فكانت هناك أولوية لتوزيع اللقاح في مراكز معينة للحدّ من انتشار المرض. لكن، تشدّد سماحة على ضرورة وضع استراتيجيات استباقية في حال انتشار أي وباء، خصوصاً في الدول المحيطة، منعاً لانتقاله إلى البلاد عبر القادمين منها، بما أن فرص العدوى تزيد عندها. ففي حال استباق الأمور، من الممكن منع دخول المرض إلى لبنان، كما حصل في وقت انتشار الكوليرا ضمن فئات معينة.
أما في ما يتعلق بفيروس جدري القردة، فقد ارتفع عدد الحالات في عام 2022 إلى حدّ كبير. لكن رغم التوصيات، هو من الأمراض التي تُشفى تلقائياً، وغالباً ما لا تحتاج إلى العلاج في المستشفى. كما أنه لا ينتقل إلى حدّ كبير بالعدوى. أما الحالات التي حصل انتشار بينها، فهي غالباً لأشخاص التقطوا العدوى عبر العلاقات الجنسية، ما يجعله محدود الانتشار على نطاق واسع. لذلك، لا يحصل تلقيح بشكل تلقائي في مواجهة فيروس جدري القردة، وليس من داعٍ للهلع أو للإسراع في تأمين اللقاح الذي يُعتبر أصلاً غير متوافر في الكثير من الدول، بحسب سماحة. ففي مثل هذه الحالات لا يتمّ التلقيح إلّا في حال انتشار المرض على نطاق واسع. حتى أن منظمة الصحة العالمية وضعت توصيات معينة حول الفئات التي من المفترض أن تحصل على اللقاح، في حال التواجد في مناطق فيها انتشار للمرض مثلاً، والوباء الذي ينتشر على مستوى عالمي هو الذي يُعتبر مقلقاً، وإلّا فليس هناك ما يدعو للقلق. أما بالنسبة للبنان، فكأي دولة في العالم، هو يطلب اللقاح لدى انتشار وباء عالمي، وإن كانت الدول تضع الأولويات بشأن الدول التي تتأمّن لها اللقاحات.
بشكل عام، حصل نقص في اللقاحات على مستوى العالم على إثر انتشار وباء كورونا، إذ تمّ التركيز على لقاح كورونا بشكل أساسي، ما أدّى إلى شح في باقي اللقاحات. هذا ما يضع القطاع الصحي على مستوى العالم أمام تحدّيات، وبشكل خاص تزيد الصعوبات في لبنان، حيث ثمة انقطاع في لقاحات عديدة حتى اليوم هي أساسية، أو أن الجرعات لا تُعطى بالشكل المناسب لتأمين الحماية اللازمة، ما يزيد من الضغوظ على المواطن في مساعيه لتأمين اللقاح لأسباب لا يعرفها أحد. فبالنسبة للقاحات كثيرة هي تُؤمّن بكميات معينة قبل أن يحصل انقطاع فيها لفترات. وحتى بالنسبة للقاح كورونا، لا يجد اليوم من يريد أن يجريه من الفئات الأكثر عرضة للمضاعفات سبيلاً لتأمينه.
آلية معينة والتخطّي غير ممكن
من جهتها، أشارت رئيسة مصلحة الطب الوقائي في وزارة الصحة العامة الدكتورة عاتكة بري، إلى أن لقاح جدري القردة غير متوافر بالفعل في لبنان، كما في دول كثيرة في العالم. وفي كل الحالات، بهدف إحضار اي لقاح في مواجهة وباء عالمي، هناك آلية معينة تستند إلى دراسة علمية تقوم بها اللجان العلمية حول الفئات الأكثر عرضة لخطر المضاعفات وأعدادها والحالات في خارج البلاد ومعدل انتشار الوباء وخطورته ومدى انتقاله بالعدوى. هذا ما حصل لدى انتشار وباء كورونا، حيث تشكّلت لجان وتمّ تأمين اللقاح على أسس علمية، وبالمقارنة بين الكلفة والفائدة.
بالنسبة إلى لقاح جدري القردة لم يتخطّ عدد الحالات 29 حالة، وهي حالات من الخارج تنتمي إلى فئات معينة، ولم يحصل انتقال للعدوى في العائلات حتى. يُضاف إلى ذلك، أنه مرض نادراً ما يستدعي الدخول إلى المستشفى. هذه الآلية ذاتها تعتمدها الدولة في مواجهة أي وباء. وفي حال انتشار وباء عالمي، تشير بري إلى أنه يحصل تكافل عالمي وتعاون مع منظمات دولية تدعم الدول التي تواجه أزمات لتوفير اللقاحات لها. وقد اختلف الوضع إلى حدّ ما في مواجهة وباء الكوليرا، لاعتبار أن انتشاره كان محلياً بعد أن كانت الحالات معدومة في لبنان من 30 سنة. اقتصر انتشاره على بؤر معينة وبشكل محدود، وكان التدخّل على هذا الأساس عبر تأمين اللقاح والقيام بحملات تلقيح على الأرض، بما أن الكوليرا خطير وسريع الانتشار ويستوجب المعالجة سريعاً. وقد أُجريت الحملات بعدما أمّنت منظمة الصحة العالمية أيضاً عدداً معيناً من اللقاحات. وحالياً هناك حملة تلقيح جديدة للكوليرا الذي تمّ التعامل معه بشكل مختلف عن كورونا، لأن ظروف انتشاره مختلفة.
وتشرح بري: "هناك ترصّد وتدخّل سريع في التعاطي مع أي حالات من أي أوبئة، ويتمّ عزل الحالات في الوقت المناسب لمنع الانتشار. لكن اللقاحات لا تُعتبر المعيار الوحيد للجهوزية في حال انتشار وباء، فالقدرة على التشخيص في الداخل وبسرعة من المعايير المهمّة أيضاً، وهي من المسائل التي نحرص عليها بشكل خاص. وهناك خطوات عديدة أخرى نحرص عليها قبل الوصول إلى اللقاح، لاعتبارها أساسية في ضبط الوضع لدى انتشار أي وباء".