كشفت دراسة جديدة لتصوير الأعصاب، أنه حينما ننخرط في مهام معرفية أكثر تعقيدًا، فإن نشاط دماغنا يصبح أغنى بالتفاصيل وأكثر انسيابية. وتشير النتائج إلى أن الدماغ يعدّل أنماط نشاطه لتتناسب مع متطلبات المهمّة، ما يسمح بمعالجة أكثر كفاءة أثناء الأنشطة الصعبة عقلياً.
نُشرت الدراسة في موقع "تقارير الأكاديمية الوطنية للعلوم"، وقد سعَت إلى فهم كيفية إدارة الدماغ للمتطلبات المعرفية المختلفة. وفي أبحاث سابقة نهض بها الفريق نفسه، تبيَّن أن الدماغ يملك قدرة رائعة على إعادة بناء ما يفقده من البيانات، مستنداً إلى الحدّ الأدنى من المقارنات والقياسات. وآنذاك، طرح الفريق أسئلة عن سبب امتلاك الدماغ القدرة على توليد أنماط النشاط التفصيلية والفعّالة، باستعمال كمية محدودة من المعلومات التي يمتلكها.
كيف نقيس 100 مليار خلية في الدماغ؟
وقُدِّم شرح عن الدراسة مِنْ قِبَل جيريمي مانينغ، بروفيسور مشارك في الطب النفسي وعلوم الدماغ في كلية "دارتموث" ومدير مختبر علمي متقدّم فيها. ونقل مانينغ لموقع psypost.org، أنه "منذ سنوات، وضعت مقدمة أولية للدراسة، بالمشاركة مع لوسي أوين. ثم وجدنا شيئاً مفاجئاً للغاية. كنا آنذاك نعمل مع مرضى أُجريت لهم عمليات جراحة الأعصاب، وزُرِعَت أقطاب كهربائية في أدمغتهم لمراقبة النشاط الكهربائي فيها. ثمة تحدٍّ واجه العمل مع هذه التسجيلات، متمثِّلاً بأن أدمغتنا تحتوي على ما يقارب 100 مليار خلية عصبية، ولكن لا يمكننا زرع سوى بضع مئات من الأسلاك بأمان في الدماغ. لذلك هناك مشكلة كبيرة في أخذ عينات عن نشاط أعصاب الدماغ كلها. ومقابل كل قياس أجريناه نعجز عن الوصول إلى ما يقارب مليار قياس آخر. لقد أردنا فهم مقدار تلك البيانات "المفقودة" التي يمكن إعادة بنائها بشكل موثوق ودقيق، باستخدام تلك المنافذ المحدودة التي بين أيدينا".
وتابع مانينغ: "لقد فوجئنا حينما وجدنا أن مئات القياسات من عينة عشوائية في دماغ شخص ما يمكنها أن تعطينا معلومات كافية لطرح تخمين دقيق حول أنماط النشاط في جميع أنحاء الدماغ".
التكيُّف مع مدى تدفق المعلومات
وأضاف البروفيسور مانينغ، "في الدراسة الأولى كنا مهتمين بجوانب "كيف" و"ماذا" في مقاربتنا. وأبلغنا عن كيفية بناء نموذجنا وإنشاء التخمينات وكيف تحققنا من صحة التخمينات والظروف التي أثرت على الدقة. في المقابل، أوصلتنا الدراسة إلى سؤال لم نتمكن من الإجابة عنه حينها: لماذا يمكن بناء تصور فعلي عمّا يفعله دماغنا بالكامل تقريبًا في لحظة معينة، باستخدام عدد صغير نسبيًا من القياسات؟ وقد قادنا ذلك إلى أسئلة إضافية حول الخصائص الأساسية لأنماط نشاط الدماغ. وأُدرِجَتْ النتائج التي حققناها في هذه الدراسة الجديدة".
استمع بعض المشاركين إلى قصة مترابطة، وآخرون إلى نسخة مشوشة من القصة جرى تركيب الفقرات أو الكلمات فيها عشوائياً. وخضعت المجموعة الأخيرة لفحص أثناء حالة من الراحة غاب عنها أي تحفيز سمعي، وذلك بهدف محاكاة حالة الحدّ الأدنى من المشاركة المعرفية.
وتمثل الهدف في التوصل إلى تحليل عن كيفية تغيّر نشاط الدماغ في ظل هذه المستويات المتفاوتة من التطلّب المعرفي. كان نشاط الدماغ أكثر إفادة وقابلية للاستجابة للمتطلبات حينما انخرط المشاركون في مهمّات أكثر صعوبة تتمثل في الاستماع إلى قصة متماسكة، بالمقارنة مع القصة المفككة وظرف الراحة بعدها. يشير هذا إلى أنه خلال المهام المعرفية عالية المستوى، ينتج الدماغ نشاطًا مفصلاً وغنيًا بالمعلومات، ويجري تنظيمه بكفاءة أيضًا، وفي المهام الأبسط أو أثناء الراحة، يكون نشاط الدماغ أقل تنظيمًا ويحتوي على معلومات أقل تحديدًا.
أفضلية بالمقارنة مع الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
سعى المؤلفون إلى التحقق من خاصّيتين لنشاط الدماغ: التبيّان التوضيحي والانضغاطية. تتعلق الأولى بالقدرة على تقديم شرح تفصيلي متماسك ومكتمل، فيما تتمحور الثانية حول القدرة على تجميع البيانات المفككة وضغطها في شرح متكامل.
ولدى البشر، تتكامل خاصيتا التبيان التوضيحي والانضغاطية، فيستخدمها الدماغ بحسب الظروف التي يواجهها.
وفي تعليق من أحد المتخصصين بالطب النفسي في لبنان، فضَّل إبقاء إسمه غير معلن، ورد أن هذا البحث يوضح نسبياً سبب "الأخطاء" التي تصدر عن الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي صُنِع أصلاً باقتباس من الدماغ البشري. إذ يسعى الذكاء التوليدي دائماً إلى تقديم "قصة" متكاملة في إجاباته استناداً إلى معلومات متناثرة في مصادر كثيرة ومتنوعة، ويستند إلى معادلات رياضية تعطيه القدرة على التقاط الأنماط المشتركة بين تلك القطع المتناثرة، ثم "يضغطها" في إجابة متكاملة.
وأضاف المتخصص نفسه، أن البحث ربما يسهم في تحسين أداء الذكاء التوليدي. في المقابل، قد يشير البحث إلى أن الإدراك البشري لديه أفضلية ما بالمقارنة مع ذكاء الآلات، بمعنى أن عمليات ضغط المعلومات المتناثرة تستند إلى قدراته الأساسية في فهم معنى وسياق البيانات المتناثرة، وذلك ما ليس واضحاً حتى الآن أنه يتوفر لدى الآلات الذكية.
وخلص المصدر نفسه إلى التذكير، بأن التكامل بين التبيان التوضيحي والانضغاطية لدى البشر، عرضة للأخطاء، وربما أكثر من الآلات بكثير، لكنها أخطاء مختلفة نوعياً عمّا يُشاهد لدى الآلات. واكتفى بإشارة سريعة إلى أن فلاسفة التفكير العلمي، كالسير فرانسيس بيكون، اعتبروا أن ميل الذكاء البشري إلى استكمال ما لديه من المعلومات، وكذلك التوصل إلى أحكام عنها؛ لا يشكّل ميزة بل إنه مدخل إلى خطأ معرفي منتشر بين الجنس البشري، تسهم فيه ميول نفسية وعاطفية وانتماءات وخيارات اجتماعية وفردية وعوامل اخرى كثيرة.