إن البحث المستمر في الفضاء الخارجي ليس مجرد سعي إلى فهم المجهول، بل إنه تجسيد لطموحنا الاستكشافي ورغبتنا في معرفة مكانتنا في هذا الكون الشاسع. هذا ما يجعل الكواكب في منظومتنا الشمسية أكثر جذبًا للعلماء، ويعزز رغبتهم في استكشافها وفهم أسرارها، ومن بينها كوكب المريخ.
إذ يثير الكوكب الأحمر فضول العلماء لإجراء التجارب عليه، وآخرها تجربة "شبكة العناكب"، إذ تمكّن علماء وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" NASA من إعادة تشكيل العناكب" السوداء المخيفة التي تتناثر على سطح المريخ.
يقظة "عناكب المريخ"
بحسب تقرير نشره موقع "لايف ساينس"، تُطلق تسمية "عناكب على المريخ" على سمة جيولوجية، للإشارة إلى تضاريس لها أشكال الشبكات المتداخلة العشوائية (أي شكل يشبه شبكة العناكب) التي تظهر في مواقع عدة على الكوكب الأحمر. وتُمثِّل مئات الهياكل الشبيهة بالشقوق الداكنة على سطحه، وقد يكون لكل منها مئات الخطوط المنفردة التي تسمّى "أرجلاً".
إضافة إلى ذلك، يمكن أن يبلغ عرض هذه التشوهات المجمعة بإحكام، أكثر من 3300 قدم (1000 متر). وتبدو من الأعلى كأنها كومة من العناكب تتحرك بسرعة عبر سطح المريخ. ورصدت مسبارات المريخ هذه العناكب للمرّة الأولى في عام 2003. ثم ظهرت هذه الملامح باستمرار في صور الأقمار الصناعية منذ ذلك الحين.
شكَّلَتْ هذه العناكب الثابتة لغزاً غامضاً تماماً حتى عام 2021، حينما أطلقت دراسة قادتها ماك كاون المتخصصة في علم جيومورفولوجيا الأرض (أي عالم الأشكال الأرضية) في "مختبر الدفع النفاث" Jet Propulsion Laboratory التابع لوكالة "ناسا" في كاليفورنيا. وشرحت تلك الدراسة للمرّة الأولى كيفية تشكّل هذه العناكب استناداً إلى نموذج معتمد لدى الوكالة الفضائية الأميركية. وبعد 5 سنوات على إعادة إنشاء هذه الشبكات، أوضحت العالمة أن لحظة ولادة هذه التكاوين المريخية شكّلت إنجازاً فاق قدرة الفريق على تصديقه.
وثمة شرح لطريقة تشكيل هذه التضاريس، وفق دراسة ماك كاون. ففي فصل الربيع المريخي، يسطع ضوء الشمس من خلال ألواح جليد ثاني أكسيد الكربون على سطح الكوكب، ما يؤدي إلى تسخين أسفل الأرض الذي يتسبب في تحول الجليد إلى غاز يولِّد ضغطاً متزايداً داخل ألواح الجليد. وعندما يصبح الضغط مرتفعاً جداً، تتشقق الألواح، ما يسمح للغاز بالتسرّب. وحين يخرج الغاز من الجليد يحمل معه سيلًا من الغبار والرمال الداكنة من السطح، تاركًا وراءه آثارًا تشبه ندوب العنكبوت، التي تظهر عندما يذوب الجليد بالكامل خلال فصل صيف المريخ.
185 درجة مئوية تحت الصفر
نفّذ الباحثون هذه الدراسة الجديدة بالاستناد إلى أحد النماذج العلمية المعتمدة، ويسمّى "نموذج كيفر". وقد وضعوا ذلك النموذج المعياري تحت الاختبار عبر إعادة إنشاء هذه الخطوات في غرفة بحجم برميل النبيذ في "مختبر الدفع النفاث". وبالاستعانة بنتائج من تقنية المحاكاة الافتراضية على الكمبيوتر، أعاد البحاثة إنشاء ضغط المريخ ودرجة حرارته منخفضة، وهي: 185 درجة مئوية تحت الصفر. وكذلك استخدموا تربة مشابهة لما يحتويه الكوكب الأحمر في غرفة غطوها بثلج ثاني أكسيد الكربون، ثم سخنوا الخليط باستخدام مصباح مركّز تحت التربة المقلّدة، بهدف محاكاة تأثير الشمس الحراري.
وفي هذا السياق، كتب ممثلو وكالة "ناسا" في بيان عن تلك التجربة، "استغرق الأمر محاولات عدة قبل أن تعثر ماك كيون على الظروف المناسبة لكي يصبح الجليد سميكاً وشفافاً، ومناسباً لإجراء التجارب". ولكن أخيراً، انفتح الجليد وتسرّب الغاز من الحفرة لمدة 10 دقائق تقريباً قبل أن يختفي ثاني أكسيد الكربون المتجمد في النهاية، تاركاً وراءه أحدى "شبكات العناكب" الشهيرة.
يخطط الباحثون في المستقبل لإجراء تجارب مماثلة من أجل حلّ أكثر الألغاز تعقيداً المتبقية حول العناكب المريخية، بما في ذلك سبب تشكّلها في بعض الأماكن على المريخ دون غيرها من الأماكن، وسبب تزايد عددها كل عام.
وفي النهاية، كلما توصّل الإنسان إلى اكتشاف جديد، زاد وعيه بأنه لا يعرف شيئاً. فنحن نعيش في كون مليء بالغموض في كل تفاصيله، ما يظهر لنا عظمة هذا الكون وأسراره، وقلّة المعلومات المتوفرة عنه، ويعزّز ذلك رغبتنا باكتشاف كل جديد والتعرف على أسرار الألغاز المعقّدة.