يُعدّ النوم من أبرز العوامل المؤثرة على الصحة البدنية والعقلية للإنسان. إنه ليس مجرد وسيلة للراحة، بل يؤدي دورًا جوهريًا في تعزيز الذاكرة وتنظيم الساعة البيولوجية وتحسين القدرات الإدراكية، بالإضافة إلى ارتباطه الوثيق بظاهرة الأحلام.
في ذلك الصدد، وفق ما نقل أحد المطلعين إلى "النهار"، يصعب عدم تذكّر أن النوم دخل في دائرة التفكير العلمي الحديث. ولعل كتاب سيغموند فرويد "تفسير الأحلام" من المفاصل التي أحدثت تغييراً أساسياً في النظرة إلى النوم والأحلام، إذ ربطته باللاوعي وتطور التركيب الفكري والنفسي لدى البشر. وقد شكّل الكتاب أحد الأركان الأساسية في مدرسة التحليل النفسي، سواء في صيغ النظريات العلمية أو في الممارسة العيادية الطبية. واستمرت تلك الوضعية ردحاً مديداً من الزمن، قبل أن تتراجع تدريجياً أمام تقدّم البحوث العلمية التي اقتحمت مجال الوعي والإدراك، وكذلك النوم والأحلام، عبر ربطها مع منهجيات علمية أكثر صلابة من التحليل الفرويدي، وصولاً إلى التعمق في علاقاتها مع الدماغ وأنشطته المتنوعة.
وقدّم المصدر نفسه مثلاً على ذلك بالبحوث التي تناولت النوم والأحلام من جهة، وبين حالات الاقتراب من الموت، بل حتى ما يحصل في عمق الدماغ لوقت قصير يلي الموت فعلياً. ورصدت إحدى الدراسات تشابهاً بين الحالين، إلى حدّ أن أحد الباحثين تفاءل بمعرفة أن آخر ما يدور في ذهن السائر في درب النوم، يتمثل في أحلام عن أكثر الأشياء تكراراً في ذاكرته، على غرار الأحبة والوالدين والأصدقاء وغيرهم.
النوم وتعزيز الذاكرة
وفي سياق الدراسات الحديثة، يتمثل أحد أبرز الجوانب التي حظيت باهتمام العلماء بدور النوم في تعزيز الذاكرة. إذ تُظهر الأبحاث أن النوم يؤدي دورًا أساسيًا في تحويل المعلومات المختزنة في الذاكرة القصيرة الأمد في الدماغ، إلى المراكز المخصصة للذاكرة الطويلة الأمد، بمعنى تحويل المعلومات المكتسبة إلى جزء من الإدراك والوعي في الكائن البشري.
إذ تبيّن لهم أن موجة من "الصمت العصبي" تطاول منطقة الحُصين (Hippocampus) تتيح للخلايا العصبية المسؤولة عن الذاكرة إعادة تهيئتها للتعلم الجديد في اليوم التالي.
وتوضيحاً، تقع منطقة الحصين في المنطقة الوسطى السفلية العميقة في الدماغ، وترتبط مع مراكز تتعلق بالمشاعر والأحاسيس وضبط الردود التلقائية في الجسم وغيرها.
وبالتالي، تبيّن الدراسة نفسها أنه خلال مرحلة النوم العميق التي يؤشر عليها بعدم حدوث حركة سريعة لعين النائم (Non- Rapid Eye Movement) واختصاراً (Non-REM)، يعمل الدماغ على إعادة تشغيل التجارب والمعلومات التي مرّت بالشخص خلال اليوم. وتُعرف هذه العملية بـ"التثبيت"، وتساعد في ترتيب الذكريات وتعزيزها.
آليات جديدة في النوم
كذلك كشفت الدراسة عن ظاهرة تُسمّى "وابل من التدفقات الكهربائية الفاعلة" (BARR) التي تعمل كنوع من زر "إعادة الضبط" Reset للخلايا العصبية. هذه الظاهرة تحدث في الحُصين وتعمل على إيقاف نشاط بعض الخلايا العصبية موقتًا، ما يساعدها في الاستعداد للتعلم الجديد من دون التأثير سلبًا على الذاكرة المخزنة.
الدكتورة أزاهارا أوليفا، المؤلفة الرئيسية للدراسة والأستاذة المساعدة في علم الأعصاب في جامعة كورنيل، أوضحت لموقع "بساي بوست" psypost أن هذه الظاهرة تعطي الدماغ فرصة لإعادة استخدام الخلايا العصبية من دون أن تصبح مثقلة بالتعلم المستمر. وأضافت: "اكتشافنا يُظهر أن دور النوم في الدماغ لا يقتصر على ترسيخ الذكريات، بل يعيد ضبطها أيضًا، ما يتيح للخلايا العصبية الاستعداد لاستقبال ذكريات جديدة في اليوم التالي."
معلومات من الفئران
استخدم الباحثون الفئران في التجربة، نظراً لتشابه بنية دماغها مع البشر، وزرعوا أقطابًا كهربائية في مناطق مختلفة من الحُصين لمراقبة النشاط العصبي خلال النوم، خصوصاً مرحلة النوم العميق. أظهرت التدفقات الكهربائية التي سجّلتها تلك الأقطاب أنماطًا جديدة من النشاط العصبي، تتمثل بظاهرة "وابل من التدفقات الكهربائية الفاعلة"، بالإضافة إلى أنواع أخرى من الموجات الكهربائية، والتي تعزز الذكريات أثناء النوم.
وأظهر التحليل أن الخلايا العصبية التي يجري إيقاف نشاطها خلال هذه الظاهرة، تكون هي الأكثر نشاطًا أثناء عمليات التعلّم، ما يعني أن الدماغ يختار الخلايا الأكثر استخدامًا ويمنحها فرصة للاستراحة وإعادة الضبط، ما يساعد في منع إرهاق مسارات الذاكرة.
تأثيرات واعدة
حينما تمكّن الباحثون من تعطيل ظاهرة "وابل من التدفقات الكهربائية الفاعلة"باستخدام بعض التقنيات الوراثية المتصلة بأعصاب العين، أظهرت الفئران صعوبة في استرجاع الذكريات المرتبطة بمهمات سبق أن أدتها، ما يؤكّد أن تلك الظاهرة ضرورية لضمان فعالية عملية التذكر.
وعلى الرغم من أن التجارب أجريت على الفئران، إلّا أن العلماء يتطلّعون إلى إجراء دراسات على البشر للتأكّد من النتائج.
وتُعدّ هذه الأبحاث خطوة مهمّة نحو فهم آليات النوم ودوره في الحفاظ على صحة الدماغ والذاكرة، ما يفتح المجال أمام تساؤلات جديدة حول إمكانية استخدام هذه الآليات لتعزيز الذاكرة أو حتى محو الذكريات غير المرغوبة في المستقبل.