الأرجح أن الخبر عن ظاهرة "هواتف الرياح" Wind Phones لمكافحة الكآبة، وتوسعها أميركياً، يحرّك مشاعر وأفكاراً كثيرة. وقبل أي تفصيل، لا يتعلق أمر هذه الهواتف بالطاقة المستولدة من الرياح والهواء!
في المنطقة العربية، يُعرف بداهة أن العبارة التي تشير إلى من يتحدث "مع الهواء"، إنما يُقصد بها الإشارة إلى أشخاص في حال ضيق نفسي، أو أحياناً، اضطراب ذهني كبير.
في أميركا، ليس الأمر ببعيد عن ذلك كثيراً، على ما يبدو.
كلمات الهواء صهوةٌ للمكبوت والعدواني
إذ تتكاثر "هواتف الرياح" في ولاياتها، بهدف مكافحة الكآبة، بمعنى أن مستخدميها يعانون ضيقاً نفسياً وعاطفياً ومزاجياً [وتلك حال الكابة]، يجعلهم يتحدثون "مع الهواء" للتخفيف عن أنفسهم، لكن عبر هواتف مخصصة لتلك الغاية.
وبالاختصار، يشير مصطلح "هواتف الرياح" إلى غرف هواتف تقليدية من النوع القديم، توضع عادة في حديقة عامة أو منتزه واسع، في نقطة تكون شبه معزولة نسبياً. ومن يدخل يطلب "الرقم" الذي يريده، عبر أداة هاتف أرضية لها دولاب متحرك للأرقام. ثم يشرع في الحديث مع من "طلبه"، لكن لا خط هاتفيّاً في تلك الغرف التي لا تتسع لسوى شخص بمفرده!
إذا الهاتف مقطوع والمتحدث يدير قرص الأرقام وهو يعلم أنه لن يحدث سوى الهواء، حرفياً تقريباً. ويحدث ذلك لأن ذلك الشخص يطلب "رقماً" لشخص عزيز راحل أو حبيب مفتقد، أو صديق خائن أو ما إلى ذلك.
تهدف تلك الثرثرة مع الهواء إلى تنفيس الاحتقان وإطلاق العنان لكلام لم يعد المقصود به موجوداً.
للمفارقة، ورد الوصف السابق أخيراً في موقع "كونفرسيشن" Conversation، وهي كلمة ترجمتها الحوار/ المحادثة، حرفياً!
لماذا هذا الكلام الهوائي؟ وكيف يخفف الكآبة والقلق والتوتر؟
من الناحية النفسية، هنالك ما يُسمّى بـ"تحويل الأشياء إلى كلام" Verbalisation، بترجمة مع التصرف. ويعني ذلك أن يلجأ المرء إلى تحويل مشاعر وعواطف وأفكار تقلقه، إلى كلمات وجمل وعبارات وأفكار تصبح أكثر وضوحاً كلما صيغت بكلمات واضحة ونطقها اللسان بصوت تسمعه الأذن.
وقد يشمل "التحويل إلى كلمات" حتى المشاعر الأكثر حدَّة والمكبوتة ربما أكثر من سواها، على غرار العنف والعدوان والرغبة في الأذى أو حتى الانتحار.
تَحَدَّث! واعطِ كلماتك لريح تبدّدها
لعلّها ليست مجازفة القول بأن بعض الجمهور العربي قد يرد إلى ذهنه أن سعي الأميركيين إلى إيجاد من يتحدثون إليه حتى لو لم يكن سوى الهواء، إنما يشير إلى مدى عزلة الفرد في الغرب.
في المقابل، يبدو أن منظومة العلاقات في معظم المجتمعات العربية، وغيرها بالطبع، لا تزال فيها مساحات وأنسجة تتيح للشخص أن ينفّس عن مكبوتاته إلى صديق مقرّب أو قريب موثوق أو حتى بعض الأشخاص الموثوقين.
في ملمح آخر، تضمن "هواتف الرياح" منحى الخصوصية بشكل واضح. تَحدَّث، لن يسمعك سوى الهواء. نفِّس عن مكبوتاتك، تحدث عن كراهيتك للأقرب والأبعد، قل كل ما ترجو أن يعرفه الآخرون عنه، أطلق كلماتك عن أي شيء وكل شيء. ليس من أُذنٍ سوى الريح، تعلك الكلمات وتبدّدها، فكأنها لم تكن.
قبل فترة، نقل لي صديق قصة سمعها ومفادها أن طبيباً نفسياً نصح أحد المكتئبين في قرية هندية، بعد أن شكا من وحدته، أن يذهب إلى زيارات لأهل قريته. وببساطة، ردّ ذلك الفلاح الهندي على الطبيب بأن منزله يقع على الطريق التي يسلكها أهل القرية أثناء ذهابهم إلى حقولهم وعودتهم منها، ما يعني أنه يراهم كلهم كل يوم، ويحييهم ويتجاذب ما تيسر من الحديث معهم جميعهم وكل يوم.
هل في هذه القصة "رسالة ما" بشأن التوسع الأميركي لظاهرة "هواتف الرياح"؟ أترك الإجابة للقارئ.