فتحَ الغزو الروسي لأوكرانيا نقاشاً في اليابان عما إذا أصبح من الضروري إعادة مراجعة الوضع الدفاعي للبلاد في ظل تقلبات السياسة الخارجية للولايات المتحدة والتشكيك المتزايد بمظلتها النووية الرادعة. بالنظر إلى أن اليابان تعرضت لقنبلتين نوويتين سنة 1945، ثمة حاجز نفسي يمنع البلاد من التحول إلى دولة مسلحة نووياً. حتى الدستور الياباني معروف باسم "دستور السلام". لكن نفور اليابان من الحروب، لا يعني عدم امتلاكها القدرة على تصنيع أسلحة نووية. ولمح مسؤولون يابانيون إلى الفكرة.
قال مسؤول ياباني بارز في حديث إلى شبكة "إن بي سي" في آذار (مارس) 2024 إن لدى اليابان الآن كميات من البلوتونيوم تكفيها لتصنيع 5 آلاف قنبلة نووية. وقدّر خبراء حاجة اليابان إلى ما بين 6 و 24 شهراً لتصنيع قنبلة نووية من البلوتونيوم، منذ لحظة اتخاذ القرار السياسي بذلك.
منعطف... وطريق صعب
منذ سنة 1967، أكد رئيس الوزراء الياباني الأسبق إيساكو ساتو المبادئ غير النووية الثلاثة لبلاده وهي أن اليابان لن تمتلك أو تصنع أو تنشر أسلحة نووية. لكن الوصول إلى القرار لم يكن سهلاً.
بحسب المحرر السابق في "ملحق نيويورك تايمز لمراجعة الكتب" باري غوين، بدأ بعض اليابانيين يشككون بفاعلية المظلة الأميركية منذ أن أجرت الصين تجربتها النووية الأولى سنة 1964. حينها، قال ساتو إن على اليابانيين الاطلاع على الوقائع الجديدة المحيطة بهم. طلب ساتو من الرئيس ليندون جونسون ضمانات إضافية للدفاع عن اليابان محذراً من أن بلاده ستطور أسلحة نووية بدون هذه الضمانات. حصل ساتو سنة 1967 على تصريح من جونسون يقول إن أميركا مستعدة لمنع الصين من نشر أسلحة نووية. فقط بعد ذلك، سعى ساتو إلى تأكيد نوايا بلاده السلمية.
لكن الولايات المتحدة لم تسلك مساراً مطمئناً لليابان. تعرض اليابانيون لسلسلة من التطورات المقلقة مثل زيارة نيكسون للصين وتخلي واشنطن عن فيتنام الجنوبية ثم العراق وأفغانستان. حتى طريقة دعم واشنطن لكييف في مواجهة الغزو الروسي تثير قلق اليابان. ومع احتمال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تصبح مخاوف اليابانيين أكبر.
في 28 تموز (يوليو)، عقدت اليابان والولايات المتحدة "حوار الردع الموسع" الذي جمع وزراء الدفاع والخارجية عن كلا البلدين. جمع "الحوار" مسؤولين أميركيين ويابانيين منذ سنة 2010، لكنه لم يكن قط على هذا المستوى، بحسب الديبلوماسي والضابط السابق في المشاة البحرية غرانت نيوشام. ذكر نيوشام في موقع "اليابان إلى الأمام" أن إصرار اليابان على "الردع الموسع" يعني ضمناً اقتراحها أنها قد تبني أسلحتها النووية الخاصة، إن لم تستطع الاعتماد على التغطية الأميركية. ففي نهاية المطاف، قد لا ترغب واشنطن بالمخاطرة بدمارها الخاص إذا دافعت عن اليابان، مهما كان الدفاع الأميركي عنها "حديدياً".
مفيد للاستراتيجية اليابانية
في منتدى عقده "معهد هدسون" الأميركي في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، وقبل أن يصبح رئيساً للوزراء، اقترح شيغيرو إيشيبا "مشاركة أميركا الأسلحة النووية أو إدخال أسلحة نووية إلى المنطقة". بعد أسابيع قليلة على غزو أوكرانيا، أظهر استطلاع رأي أن 85 في المئة من اليابانيين تقريباً يؤيدون إجراء "نقاش" حول موضوع "المشاركة النووية".
لكن بعدما تولى منصبه رسمياً في 1 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، خفف إيشيبا لهجته بحسب الكاتب في "نيوزويك" غوردون شانغ. فقضية تحول اليابان إلى دولة نووية عسكرية لا تزال منفرة لغالبية اليابانيين كما أن ثمة ترجيحاً لقيام معارضة دولية لهذه الخطوة، حتى من قبل الأطراف التي يريد إيشيبا إشراكها في "الناتو الآسيوي". لكن التكهنات عن نوايا اليابان تجاه الموضوع يمكن أن تفيد الوضع الاستراتيجي للبلاد.
لفت تقرير "إن بي سي" في آذار إلى أن حديث السياسيين اليابانيين عن الاستخدام المحتمل للمخازن النووية في المجال العسكري هو جزء من استراتيجية "القنبلة في القبو" وهي الاستراتيجية التي تمكّن اليابانيين من الاحتفال بقدراتهم من جهة، كما بإبقاء الجيران في حالة تكهن من جهة أخرى. لكن هذه الاستراتيجية لا تخفي بعض المعضلات، من بينها، كما كتب الباحث في "المعهد الياباني للشؤون الدولية" نوبومازا أكياما، سعي طوكيو إلى عالم خال من السلاح النووي، واعتمادها في الوقت نفسه على الردع النووي الأميركي.
لكن كويشي هامادا، مسستشار سابق لرئيس الوزراء الياباني الراحل شينزو آبي، لم يرَ وجود معضلة في هذا الإطار. فنزع السلاح النووي حول العالم لا يعني عدم الدفاع عن النفس، وهو جهد يتطلب ردعاً نووياً كما كتب في "بروجكت سينديكيت".
متى؟
لا تشير التطورات الحالية إلى أن اليابان قريبة من اتخاذ القرار الحاسم. مع ذلك، يعتقد البعض أن هذه الخطوة هي مسألة متى، لا هل. غوين، المحرر السابق في "ملحق نيويورك تايمز لمراجعة الكتب"، رأى أن الظروف التي حمت طوكيو بعد الحرب العالمية الثانية تغيرت. لهذا السبب، وكما كتب في مجلة "ناشونال إنترست"، باتت القنبلة النووية "قَدَر" اليابان. الجواب على ما إذا كان اليابانيون سيعانِدون هذا "القدر"، وإلى متى، متروك للمستقبل.