كان الأمر سريعاً. يوم الاثنين، ذكر تقرير لـ"نيويورك تايمز" أن الإدارة الأميركية سمحت للجيش الأوكراني باستخدام صواريخ "أتاكمس" ضدّ أهداف روسية وكورية شمالية في منطقة (أوبلاست) كورسك الروسية. احتلّت أوكرانيا قسماً من تلك المنطقة في الصيف الماضي، وهي تحتفظ بنحو 600 كيلومتر مربع منها في الوقت الحالي.
ليل الاثنين-الثلاثاء، استهدفت أوكرانيا منشأة عسكرية في منطقة بريانسك الروسية. تداولت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً وفيديوهات للانفجار حيث تساءل المتابعون عمّا إذا كان الاستهداف قد تمّ بصواريخ "أتاكمس".
صباح الثلاثاء، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه وقّع على تغيير في العقيدة النووية الروسية. في الصورة العامّة، تقول العقيدة الجديدة إنّ روسيا ستدرس استخدام الأسلحة النووية إذا تعرّضت لهجوم كان مدعوماً من دولة نووية.
لاحقاً، وقرابة منتصف يوم الثلاثاء بالتوقيت المحلي، قال مصدر "مطّلع" في قوات الدفاع الأوكرانية لوكالة "آر بي سي أوكرانيا": "بالفعل، للمرة الأولى، استخدمنا أتاكمس لضرب أرض روسية. شُنّت الضربة ضدّ منشأة في منطقة بريانسك، وقد تمّ ضربها بنجاح".
ثم نقلت وكالة "أسوشيتد برس" عن وكالات أنباء روسية قولها إن أوكرانيا شنّت هجوماً على بريانسك ليل الاثنين شمل ستّة صواريخ "أتاكمس" طويلة المدى. وقالت التقارير إن شظايا سقطت من صاروخ واحد على منشأة تقنية عسكرية ما تتسبّب بحريق، بينما تمّ اعتراض الصواريخ الأخرى.
ماذا في التفاصيل؟
أوضح الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف أمام الصحافيين يوم الثلاثاء أن التعديلات الجديدة على العقيدة النووية الروسية تعني أن "استخدام مقذوفات غربية غير نووية من قبل القوات المسلحة لأوكرانيا ضدّ روسيا يمكن أن تطلق ردّاً نووياً". وأضاف أنّ هدف الردع النووي هو ضمان أن يفهم عدوّ محتمل حتمية الردّ على حدث اعتداء ضدّ الاتحاد الروسي و/أو حلفائه".
يصعب الفصل بين قرار المصادقة على تغيير العقيدة النووية الروسية والمستجدات السياسية أو الميدانية الأخيرة. من المرجّح أن يكون الروس قد عملوا على التعديل منذ فترة غير قصيرة، أي في الحدّ الأدنى، منذ أن تعهد بوتين في أواخر أيلول (سبتمبر) بالعمل على تغييرها: "العدوان ضدّ روسيا من قبل أيّ دولة غير نووية، لكن بمشاركة أو دعم من دولة نووية، يخضع لاقتراح أن يُعتبر هجوماً مشتركاً على الاتحاد الروسي". جاء كلام بوتين المتلفز حينها بالتوازي مع اجتماع لقادة العالم في الجلسات العامة للأمم المتحدة.
وكانت العقيدة النووية الروسية التي تمّ تحديثها آخر مرة سنة 2020 تسمح باستخدام الأسلحة النووية رداً على "تهديد وجودي" لروسيا أو انتقاماً لاستهدافها بأسلحة دمار شامل. بالتالي، مثّلت خطوة الثلاثاء خفضاً لعتبة استخدام الأسلحة النووية بالنسبة إلى موسكو. فـ"الاتحاد الروسي قد يستخدم أسلحة نووية عقب تهديد لسيادة ووحدة أراضيه و(أراضي) بيلاروسيا".
بمعنى آخر، أصبح المسّ بسيادة روسيا مدعاة دراسة لاستخدام السلاح النووي إلى جانب التهديد الذي يطال "وجودها". وسمح التحديث الجديد بالإشارة إلى أنّ السلاح التقليدي الذي يُستخدم قد يشكّل تهديداً حرجاً للسيادة الروسية وإلى أنّ الهجوم على بيلاروسيا سيُنظر إليه أيضاً على أنّه مساوٍ للهجوم على روسيا. ويحدّد التحديث الجديد شروط استخدام أسلحة نووية جديدة بتفصيل أكبر بالمقارنة مع النسخ السابقة، مثل إمكانية اللجوء إلى هذه الأسلحة في حال تعرضت روسيا لهجوم بصواريخ باليستية أو من طراز "كروز" أو لهجوم بواسطة مقاتلات أو طائرات بلا طيّار أو مركبات طائرة أخرى.
شرطيّ جيّد أم سيّئ؟
صواريخ "أتاكمس"، وهي اختصار لعبارة "منظومة الجيش الصاروخية التكتيكية"، يمكن أن تصل إلى مسافة 300 كيلومتر. ثمّة اختلاف بشأن ما إذا كانت هذه الصواريخ بعيدة المدى، وهي كذلك بحسب الكثير من التقارير الإعلامية. لكنّ آخرين، مثل المؤرّخ في جامعة "ييل" تيموثي سنايدر، يقولون إنّ تلك الصواريخ قصيرة المدى. ففي ما يخصّ الصواريخ الباليستية، يجب أن يتخطّى نطاقها 5600 كيلومتر كي تصنّف ضمن خانة البعيدة المدى. في جميع الأحوال، تُعدّ هذه الصواريخ صعبة الاعتراض بحسب تقارير غربية، وقد يكون تأثيرها النفسي المحتمل على المقاتلين وربما المواطنين الروس، لا تأثيرها التدميريّ المباشر، هو الذي استدعى الإعلان عن توقيع بوتين على تغيير العقيدة النووية.
وذكرت شبكة "آر تي" الروسية على منصّة "أكس" أنّ روسيا تبدأ بإنتاج ملاجئ نووية متحرّكة مصمّمة لحماية المدنيين من تهديدات مختلفة بما فيها الإشعاع الخفيف من الانفجارات النووية والتلوّث الإشعاعي.
ورداً على التهديد باستخدام السلاح النووي، قال كبير المسؤولين في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن هذا السلوك "غير مسؤول".
قبل الإعلان عن العقيدة النووية الجديدة لروسيا، رأى الكاتب في شؤون الأمن القومي توم روغان أن لعبَ بايدن دور "الصقر" في قضية صواريخ "أتاكمس" قد يساعد الرئيس المنتخب دونالد ترامب على منح بوتين خياراً: "هل تريد روسيا مواجهة شرطيّ جيّد، أو حتّى شرطيّ سيّئ آخر؟".
يبدو أنّ الإجابة لم تطل كثيراً. قرّر بوتين المواجهة بتهديد نووي جديد... مهما يكن نوع الشرطي الذي سيلاقيه.