المهاجرون يؤرقون أوروبا
فيما يهدّد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بترحيل 11 مليون مهاجر، نشطت حركة استهداف طلّاب اللجوء والأجانب الوافدين بشكل غير قانوني إلى أوروبا. وتتزايد المؤشرات إلى أنّ العام الجديد سيشهد ارتفاعاً ملموساً في سخونة الأزمة التي يعيشها هؤلاء في الغرب.
سيعود ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير)، كما قد تسقط عواصم جديدة، مثل بوخارست، في يد متشدّدين بنوا أمجادهم على العداء للمهاجرين. والمتطرّفون شكّلوا، أو يشكّلون، حكومات جديدة لسبع دول أوروبية هذا العام، تضاف إلى إيطاليا والمجر والسويد وفنلندا التي تعتبر كلّاً منها معقلاً للشعبويّين، كما عزّزوا نفوذهم في فرنسا وألمانيا. وتسارعت وتيرة التشريعات التي تضيّق على الأجانب في دول يحكمها متشدّدون، كما في هولندا، وأخرى يقودها "اشتراكيون" كألمانيا.
وقد أخذ أقصى اليمين في أوروبا يستعدّ لملاقاة ترامب. وقرّرت مجموعاته التي تتنامى سطوتها يوماً بعد يوم رصّ الصفوف بشكل ممنهج. فحولت كتلة "وطنيون من أجل أوروبا" التي أبصرت النور في البرلمان الأوروبي قبل أشهر، إلى حزب يحمل الاسم ذاته وانتخبت سانتياغو أباسكال زعيم حزب "فوكس" الإسبانيّ المتطرّف، قائداً له.
وتوصّلت دول الاتحاد الأوروبي بعد نحو عشر سنوات من البحث المضني عن سبل الحدّ من توافد الغرباء، إلى إقامة "حلف الهجرة واللجوء". والأدهى أنّه لم يمرّ أكثر من خمسة أشهر على إقرار الحلف في نيسان (أبريل) الماضي الذي استنكف مشاغبون عن مصادقته، حتّى دعا بعضهم إلى إضرام النار به أو إجراء تعديلات جذرية عليه. ولا يزال الغموض يلفّ مصير الاتفاق التاريخي الذي يفترض أن يدخل حيّز التنفيذ في أواسط 2026.
و"الشغب" حينما يتصل الأمر بالمهاجرين لا يأتي فقط من حكومات متطرّفة. فدونالد توسك، رئيس الوزراء البولندي "المعتدل" والأوروبي من رأسه إلى أخمص قدميه كما يدّعي، عارض بروكسيل بتعليق "حقّ طلب اللجوء" متذرّعاً بإساءة استخدامه من روسيا ومن يدور في فلكها، ممّن اتّهمهم باستعمال اللاجئين الآتين من أفريقيا والشرق الأوسط سلاحاً ضدّ القارة العجوز. وحذت حذوه فنلندا. واللافت أنّ هلسنكي وأمستردام اللتين يقودهما متطرّفون قرّرتا مع وارسو "المعتدلة" وبرلين "الاشتراكية"، تقييد اتفاقية شينغن لحرية الحركة بين دول الاتحاد.
والواقع أنّ هؤلاء لا يمثّلون استثناءً، كما يدلّ اندفاع حكومات 17 من دول الاتحاد الأوروبي الـ 27، ذات الأطياف السياسية المختلفة، للدعوة في قمّتهم الأخيرة إلى "نقلة نوعية" في سياسات ترحيل طالبي اللجوء وطرق تنفيذها.
أمّا في بريطانيا، التي لا تكاد تحوّل أنظارها عن قضايا الهجرة حتّى تعود إليها، فقد رفع رئيس الوزراء الاشتراكي كير ستارمر شعارات "يسارية" بشأن الهجرة، إلّا أنّه يتعاطى مع ملفّاتها على الأرض، بأدوات "يمينية". لذا اتّهم حكومات المحافظين بإساءة إدارة الأزمة، ثمّ لم يلبث أن أخذ يستعمل أساليبهم ذاتها للاستعانة بدول أجنبية على معالجتها. هكذا أبرم اتفاقات مع جهات مثل العراق وإقليم كردستان لملاحقة عصابات الإتجار بالبشر المزعومة. ومع أنّه هاجم بضراوة مشروع المحافظين لترحيل المهاجرين إلى رواندا وألغاه فور تسلّمه منصبه الحالي، فقد سعى الزعيم الذي يصنّف نفسه بالاشتراكي التقدّمي، إلى طلب النصح من جورجيا ميلوني، نظيرته الإيطالية ذات الجذور التي تضرب عميقاً في التربة الفاشية، بشأن تجربتها في نقل المهاجرين للتعامل معهم في ألبانيا!
وتوسك يشبه نظيره البريطاني في الحديث باعتدال والعمل بتشدّد! وهو الآخر انتقد حزب "القانون والعدالة" الذي سبقه إلى السلطة واتّهمه بالشعبوية، ولما صار في السلطة تبنّى أجندة خصومه حيال المهاجرين وراح يكمل ما بدأوه. وربما كان سرّ هذا التحوّل يكمن في حاجته إلى مزيد من الدعم الشعبي الآخذ بالانحسار قبل الانتخابات الرئاسية.
في هذه الأثناء، يواصل رئيس وزراء المجر الشعبوي فيكتور أوربان استغلال قضايا الهجرة بطريقته، وهو لم يكفّ عن الضرب بسيفها منذ سنوات. والمفارقة أنّ بلاده هي الأقلّ معاناة من تداعيات الهجرة، إلّا أنّها واحدة من أكثر الدول التي تجأر بالشكوى من المهاجرين.
ثمّة حرص على استعمال المهاجرين من أطراف متصارعة كسلاح فعّال، أو قد يُعاملون ككرة سياسية يتقاذفها الخصوم لتسجيل نقاط ضدّ بعضهم بعضاً، وأداة تساعد على رفع أسهم هذا الزعيم والتغطية على أخطاء ذاك. ووسط هذا الزحام، تُمحى الحدود بين اليمين المتطرّف واليسار الليبرالي، فيما يتماهى أحدهما مع الآخر بصورة متزايدة على جبهة الهجرة.
في غضون ذلك، العالم يحترق، والفيضانات تُغرق أجزاء من أوروبا التي تمثّل ثاني أغنى مجتمع في العالم، والأهمّ من حيث العلاقة بالقارات الأخرى تاريخياً وسياسياً. أمّا هي فتنشغل بمحاربة أزمة مضخّمة، أو ربما موهومة، يصوّرونها كالبعبع الذي يهدّد بابتلاع الغرب. هذا ما قالته لويز كالفي، وهي مديرة منظمة "طلب اللجوء مهمّ" في تعليق على تقرير وضعه باحثون من 18 من كبريات الجامعات الغربية، أظهر في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أنّ عدد المهاجرين الذين جاؤوا بطرق غير قانونية إلى أوروبا لا يزال على حاله منذ 2008.
إحصاءات المهاجرين، وطلاب اللجوء الذين لم يأخذهم التقرير المذكور في الاعتبار، تتناقض وتتعدّد. ولا بدّ من أنّ "الكذبة" صارت خطراً حقيقياً في مخيلة الكثير من الأوروبيين لفرط ما دسّها هناك إعلاميون وسياسيون. فهي أعطت أحزاباً وأشخاصاً الجاه والسلطة ونسفت المستقبل السياسي لآخرين. وغالباً ما تكون "الكذبة" إياها وسيلة يوظّفها القائد الجديد لعرض عضلاته الشعبوية.
ينبّه باحثون، وسياسيون من قماشة الزعيم الإسباني بيدرو سانشيز، إلى أنّ المهاجرين يرفدون الغرب بالحياة ويوفّرون له طاقات لا يمكنه الاستغناء عنها. لكن في سياق التهافت لتبنّي نهج ترامب الشعبوي سيكون وجود المهاجرين غير الشرعيين في القارة العجوز على كفّ عفريت!