الثابت الوحيد في السياسة أنها تتبدل بحسب اتجاه رياح المصالح، وعليه الدول ذات النفوذ بصرف النظر عن حجمه وطبيعته، تتفهم التغيير الذي قد يطرأ على مواقف دول تعدها "صديقة"، والعلاقات الروسيّة الإيرانيّة لا تشذّ عن هذه القاعدة.
كان للهجوم الروسي على أوكرانيا تداعيات شتى، من أبرزها أنها أعادت إلى الخريطة العالمية أجواء الحرب الباردة والصراع مع الولايات المتحدة. وفي المنتدى الإقليمي الذي عُقد في عشق أباد عاصمة تركمانستان يوم الجمعة الماضي، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن "نظاماً عالمياً جديداً يتشكل وإن مراكز جديدة للنمو الاقتصادي والنفوذ المالي والسياسي آخذة في الظهور"، وعلى هامش القمة نفسها، كان لقاء مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، عبّر خلاله بويتن عن "تقارب وجهتي النظر" للأحداث الجارية.
وفي ضوء العلاقة المتوترة مع الغرب، يحرص زعيم الكرملين من جهته على تطوير العلاقات بين ما يسميه "شرق العالم وجنوب العالم" الأمر الذي يثير القلق في واشنطن. وهذا "القلق" من النقاط المشتركة بين طهران وموسكو، وقد اتفق بوتين وبزشكيان على تسريع إنجاز المشروعات في قطاعات الغاز وبناء الطرق والسكك الحديدية وتحلية المياه، إضافة إلى مشاريع مرتبطة بالطاقة والكهرباء.
من الأرض إلى الفضاء
بعد أقل من 48 ساعة على محادثات بوتين – بزشكيان أرسلت إيران قمرين اصطناعيين منتجين محلياً إلى روسيا لإطلاقهما بواسطة مركبة فضاء روسية. وبحسب ما أعلنت وكالة تسنيم الإيرانية أن تطوير القمر الاصطناعي "كوثر" يمكنه التقاط صور عالية الدقة، والثاني "هدهد" مخصص للاتصالات ويمكن استخدامه في المناطق النائية، بمعنى آخر وكأن إيران تقول أنها مخصصة للاستخدام المدني.
على الرغم من كل هذه الأجواء، إلّا أن الطرفين يختلفان في ملفات عدّة تعد حيوية لإيران مثل الملف السوري والحرب الدائرة في لبنان والتي تهدف إلى إضعاف "حزب الله"، أحد أهم الحلفاء وركيزة النفوذ الإيراني، خصوصاً أن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل لاستكمال هجومها على لبنان. وفي هذا الإطار يقول آرون ديفيد ميلر، المفاوض الأميركي السابق إلى الشرق الأوسط، إن "واشنطن ليس لديها أمل يذكر في تقييد إسرائيل" وإنها ترى "فوائد محتملة في العملية"، وأن العملية العسكرية أحدثت ما وصفه بـ"الزخم" الذي رأت فيه الإدارة فرصة لجعل من "الضرورة فضيلة".
كما أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر على دعم إسرائيل في شن هذه الهجمات "بهدف تدمير البنية التحتية لـ"حزب الله" حتى نتمكن في نهاية المطاف من التوصل إلى حل دبلوماسي".
وبناء على ما سبق، فإن إيران وروسيا بحاجة إلى التعاون بشكل أوسع في المنطقة تفادياً للوصول السيناريو الأسوأ، لاسيما مع التهديدات الإسرائيلية بالرد على هجوم 2 تشرين الأول (أكتوبر)، ومع ما يرافق ذلك من فرض عقوبات جديدة على طهران بحجة مساندتها موسكو بوسائل قتال في أوكرانيا وتحديداً المسيرات والصواريخ.
مواجهة الناتو
يبدو واضحاً أمام وقائع الميدان، أن مباحثات وقف إطلاق النار غير قادرة راهناً على التفوق على القرار العسكري، بدليل ما أعلنه وزير الخارجية عراقجي عن "إيقاف تبادل الرسائل غير المباشرة مع الولايات المتحدة بسبب الظروف الحالية الإقليمية الخاصة" وإشارته إلى أنه "ليس هناك أرضية مناسبة لعملية تبادل الرسائل".
أما البديل لن يكون إلّا بتثبيت الشراكات الإقليمية والدولية، على رأسها روسيا، فالخلافات القائمة تبدو أقلّ شأناً مقارنة بما يحدث في الميدان الجيوسياسي، وهنا يرى الكاتب الصحافي والأكاديمي الإيراني عماد آبشناس، في حديث مع "النهار" أن إيران قادرة على الدفاع عن نفسها على عكس إسرائيل، لكن "إذا ما أرادت الولايات المتحدة الدخول في مواجهة مع إيران روسيا سوف تكون سعيدة كي ترد الجميل على ما تفعله الولايات المتحدة في أوكرانيا و تدعم إيران بكل ما تحتاجه لإغراق الولايات المتحدة في مستنقع الشرق الأوسط".
والأمر لا يقتصر على روسيا برأي الأكاديمي الإيراني، بل إن الصين "من مصلحتها إشغال الولايات المتحدة في حرب طويلة الأمد في الشرق الأوسط وإبعادها عن شرق آسيا".
وبلغة المصالح الاستراتيجية، حلف شمال الأطلسي (الناتو) وسّع مناطق نفوذه إلى الحدود الروسيّة الأوروبيّة، وهذا أحد الأسباب المباشرة لحرب أوكرانيا ولكن هواجس موسكو تشمل القوقاز أيضاً، وفي هذا السياق يوضح رئيس تحرير مجلة "فوستوك" الناطقة باللغة الروسية دكتور اسكندر كفوري، أنه بالنسبة إلى الكرملين إذا سقط "حزب الله" يعني أن الخطوة التالية ستكون باتجاه إيران و"من المؤكد أن روسيا لن تسمح بذلك". ويستطرد شارحاً لـ"النهار" أنه في حال "سقط النظام في إيران لصالح آخر حليف للغرب، يعني أن هناك خوفاً كبيراً من أنّ الناتو قد يقوم بنشر صواريخ كما يفعل في أوروبا الشرقية وهذا ما لا يمكن لروسيا القبول به".
بكلام آخر، إيران بحلفها القائم مع روسيا تشكّل خطّ دفاع أمام تمدّد نفوذ الأطلسي باتجاه جنوب القوقاز والمضي في محاصرة موسكو.