جاء الهجوم الذي استهدف شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية "توساش" ليخلط الأوراق مجدداً في الداخل التركي، الذي كان قد تلقّف بأمل الإشارات الإيجابية الأخيرة لتحالف السلطة في تركيا إلى احتمال إعادة إحياء مسار السلام في البلاد، بهدف معالجة المشكلة الكردية المزمنة.
دعوة باهتشيلي إلى السلام
بعد خطوات وصفت بالإيجابية، بدأت بمصافحة أعضاء حزب "المساواة وديموقراطية الشعوب" (ديم) الموالي للأكراد، والكلام عن إطار سلام لتمكين الجبهة الداخلية ضد الأخطار الوجودية، أحدثت تصريحات الزعيم اليميني المتطرف دولت باهتشيلي، شريك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في "تحالف الشعب" الحاكم، أمام كتلته البرلمانية قبل يومين، تغييراً في المشهد السياسي.
اقتراح باهتشيلي الذي فسح المجال أمام عبد الله أوجلان للحديث تحت قبة البرلمان، اعتبر نقطة تحول في نهج تركيا "الدولة" تجاه القضية الكردية. وقبوله بالزعيم الكردي المحكوم بالأشغال الشاقة المؤبدة بتهم الإرهاب كشريك في الحل، اعتبره الكثير من الأتراك خطوة جريئة بعد عقود من رفض أي مقترح من هذا القبيل.
وفي إشارة إلى كون الدعوة نهجاً سياسياً غير فردي أو حزبي، أعلن أردوغان دعمه أطروحات شريكه، مشدداً على ضرورة عدم إضاعة الفرصة التاريخية التي يقدمها التحالف الحاكم، وهو الذي حذّر سابقاً من أخطار أمنية تحدق بتركيا جراء "الأطماع الإسرائيلية في أراضيها".
في المقابل، طعنت الأحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب "الشعب الجمهوري"، في جدّية الحكومة وحلفائها، مؤكدة دعم إنهاء الإرهاب وإحلال السلام، لكن مع التشكيك في وجود دوافع تتعلق بالسياسة الداخلية وراء دعوة باهتشيلي، ومعتبرة أن الهدف من ورائها تسهيل جهود إعادة انتخاب الرئيس أردوغان وصوغ دستور جديد، بدلاً من التزام حقيقي بحل المشكلة الكردية.
وفي خضم الجدل المثار حالياً في تركيا حول تصريحات أركان التحالف الحاكم، ينفي مسؤول السياسات الأمنية في "الحزب الديموقراطي" التركي مصطفى بوغورجو، في تصريح لـ"النهار"، مواجهة تركيا أخطاراً وجودية كما تعلن السلطة، ويقول: "منذ دخولي إلى البيروقراطية الأمنية والحكومات السياسية التي لا تستطيع إدارة البلاد والمتورطة في قضايا الفساد، تستخدم قضية الأمن القومي لتضليل المجتمع من خلال الحديث عن محاربة الإرهاب وضرورة الالتفاف حول السلطة ضد هجوم العالمي عليها".
ويوضح بورغوجو، الضابط السابق في قوى الأمن التركية، أن "تركيا تواجه مشكلات اقتصادية خطيرة وحادة، فهناك أزمة اقتصادية ومعيشية واضحة، ومشكلات في الأمن الغذائي، والأمن المعلوماتي، وأمن المدن وقطاع الصحة، وهذه التصريحات تأتي للتشويش على هذه القضايا وللتمهيد لمحاولة الرئيس رجب طيب أردوغان الترشح مرة أخرى للرئاسة في 2028".
الهجوم على "توساش"
وسط هذا الجدل السياسي، نفّذ رجل وامرأة مسلحان هجوماً على منشآت شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية (TUSAŞ) وسط أنقرة، أسفر عن مقتل 5 أشخاص وإصابة 22 آخرين، وأثار ردود فعل واسعة في أوساط المسؤولين الحكوميين وأطراف دوليين.
وفيما اتّهم مسؤولون أتراك، من بينهم وزير الدفاع يشار غولر ووزير الداخلية علي يرلي كايا، حزب العمال الكردستاني بالوقوف وراء الهجوم، علّق الرئيس أردوغان على الهجوم أثناء حضوره قمة "بريكس" في قازان في روسيا، واصفاً إياه بأنه "اعتداء جبان يهدف إلى تقويض المبادرات الدفاعية والأمن القومي لتركيا".
يرى بوغورجو أن "الهجوم أظهر مرة أخرى للرأي العام في تركيا قدرة حزب العمال الكردستاني الإرهابي على القيام بعمليات داخل البلاد، ففي العام الماضي، وتحديداً في 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، نفذ إرهابيان هجوماً في قلب العاصمة أنقرة في مجمع وزارة الداخلية".
ويَلفت إلى أن "وزير الداخلية السابق سليمان صويلو، كان قد أعلن قبل الانتخابات العامة أن البلاد باتت خالية من مقاتلي حزب العمال الكردستاني وأعضائه الإرهابيين، وأنه لم يتبق سوى حوالي 70 إرهابياً خارج البلاد، وأن السلطات تعرف تفاصيل دقيقة عنهم، حتى مقاسات أحذيتهم، لكن يبدو أن تركيا تواجه عواقب هذه التصريحات المضللة والمغلوطة، التي تهدف إلى التلاعب بالرأي العام. فعندما تظهر المشكلات، تتصرف حكومة حزب العدالة والتنمية التي تحكم تركيا منذ 23 عاماً، وكأنها الجهة التي تواجه المشكلات وتحلها، رغم أنها المسؤولة عن هذه الأزمات في المقام الأول، وتستمر في حملتها الدعائية للتنصل من المسؤولية".
استهداف شمال سوريا والعراق
وسبقت الاتهام الرسمي لحزب العمال الكردستاني بالوقوف خلف الهجوم، ضربات مدفعية وجويّة نفذها الجيش التركي ضد 32 موقعاً للحزب في سوريا والعراق تم تدميرها، وفق بيان رسمي.
وردّاً على هذه الهجمات قالت الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في "الإدارة الذاتية" لشمال شرقي سوريا إلهام أحمد، لـ"النهار"، إنه "حتى الآن لم يتم التثبت مما إذا كان حزب العمال وراء تنفيذ العملية أو لا. لكن بغض النظر عن منفذي الهجوم، لا يحق لتركيا الهجوم على مناطق شمال سوريا وشرقها رداً على الهجمات الداخلية لديها. فهي تنتهك سيادة الأراضي السورية وتستهدف المدنيين وتدمر البنية التحتية للمنطقة وتستهدف لقمة العيش للسكان المحليين وترتكب جرائم ترقى إلى مستوى جرائم حرب".
ودعت أحمد المسؤولين الأتراك إلى أخذ مواقف عبد الله أوجلان عن استعداده لنقل القضية من الصراع إلى المستوى السياسي والقانوني مأخذ الجد، معتبرة أن دعوة باهتشيلي أوجلان إلى البرلمان تعتبر أيضاً فرصة يمكن استثمارها في خدمة الحل السياسي والسلام الحقيقي والمستدام.
وقالت: "نحن مع الحل السلمي في تركيا، والقضية الكردية هي قضية مشروعة يجب حلها بحسب القوانين الدولية وحقوق الإنسان، وهي بحاجة لضمانات دولية لخوض مسار سياسي حقيقي".
وفي السياق نفسه، أكد نواف خليل، مدير "المركز الكردي للدراسات" ومقره بوخوم الألمانية، في حديث لـ"النهار"، أن "كل الأطراف الكردية في المنطقة تدعو إلى السلام، وحزب ديم سبق باهتشيلي في الدعوة إلى السلام واتّخذ خطوات جدّية، وليس الدعوة إلى الاستسلام كما دعا إليها باهتشيلي"، مضيفاً: "أي مسار تفاوضي يجب أن يكون بمستوى المفاوضات التي حدثت في أوسلو أو الحوارات أو المفاوضات التي كانت تجري مع أوجلان في إمرالي عن طريق حزب الشعوب الديموقراطية".