حرب الإسناد والمشاغلة بدأت في 8 تشرين الأول (أكتوبر)، ومنذ ذلك الحين ولبنان يعيش على بورصة الميدان، صعوداً أو هبوطاً بحسب المعطيات العسكرية. لكن أسهم هذه "البورصة" انهارت مع إطلاق "سهم الشمال" وهو الاسم الذي أعطته إسرائيل لعمليتها على لبنان. لكن قبل ذلك مؤشرات تغيير الواقع الميداني كانت قد ظهرت جلياً مع اغتيال القائد العسكري لـ"حزب الله" فؤاد شكر، ومن ثم تفجير "البيجر" والأجهزة اللاسلكية. وطوال تلك الفترة كان السؤال عن دور إيران وما يمكن أن تقوم به لإشغال إسرائيل مساندة حليفها الأول وابنها البكر.
التساؤلات هذه بقيت موضع أخذ وردّ إلى أن وقع الاغتيال الزلزال في الضاحية الجنوبية لبيروت الذي استهدف الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله ومجموعة من القادة من اللذين كانوا برفقته ومنهم نائب قائد الحرس الثوري الإيراني عباس نيلفوروشان.
هذا السرد للوقائع الميدانية يأخذنا إلى الردّ الإيراني ليلة 2 تشرين الأول (أكتوبر)، بالشكل هذا الأمر يختلف تماماً عن ما سبق في نيسان (أبريل) الماضي، إذ أن الصواريخ كانت مختلفة وبطيئة ما سمح للدفاعات الجوية باعتراض أغلبيتها القصوى. إنما النزال الثاني من نوعه بين إسرائيل وإيران، بدا مختلفاً لجهة استخدام صواريخ فرط صوتية، ما صعّب من إمكانية اعتراضها، وبالفعل أصابت هذه الصواريخ عدداً من القواعد الجوية باعتراف الجيش الإسرائيلي نفسه.
الهدف نتنياهو
في الجولة الأولى كانت الولايات المتحدة وعدد من دول حلف الأطلسي (الناتو) حاضرة بكل ترسانتها البرية والبحرية لصدّ الهجوم الإيراني. أما في الجولة الثانية فالردّ الأميركي كان محدوداً. هذا تحديداً آثار تساؤلات حول طبيعة التنسيق الأميركي الإيراني المسبق للهجوم، كما حصل سابقاً، على الرغم من نفي طهران عن التواصل المباشر مع واشنطن على لسان وزير الخارجية عباس عراقجي، الذي قال للتلفزيون الرسمي الإيراني: "قبل الهجوم، لم تكن هناك أي اتصالات"، مشيراً إلى أن بلاده تواصلت مع الجانب الأميركي بعد الهجوم عبر السفارة السويسرية.
مدير مركز الدراسات الاستراتيجية العربية الإيرانية مصدق بور، وفي سلسلة لقاءات صحافية ومداخلات إعلامية له، رأى أن الهجوم الإيراني لا يهدف إلى الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، إنما هدفها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بشكل أساسي الذي حاول أن يحشر إيران بين الردّ وإشعال المنطقة أو عدمه، وبالتالي اهتزاز قوة الردع بينهما.
لكنّ الأهم في ما قاله بور، خلال مقابلاته التلفزيونية، أن الهجوم الإيراني لم يُحرج الأميركيين بل على العكس ربما ضمنياً كانوا مرتاحين له. وهذا بحدّ ذاته قد يكون جواباً على التساؤل بشأن طبيعة المؤازرة الأميركية لتل أبيب في صدّ الهجوم الصاروخي الأخير.
لكن من ناحية ثانية، لا يُمكن إغفال ما سبق أن أعلنه الرئيس الإيراني مسعود بزشكیان من أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية قدمت وعودا بوقف إطلاق النار مقابل عدم ردّ إيران على اغتيال إسماعيل هنية، واصفاً ذلك بأنه "كان كذباً"، و"منح هؤلاء المجرمين الفرصة سيجعلهم أكثر جرأة على ارتكاب المزيد من الجرائم".
ومع إطلاق الهجوم، أعلن الحرس الثوري أنه يأتي انتقاماً لاغتيال هنية في طهران ونصرالله ونيلفورشان في ضاحية بيروت، بعد موجة من الانتقادات العلنية وغير العلنية لإيران بأنها تأخرت في الردّ وأنها لو فعلت ذلك ذلك باكراً لما اغتيل نصرالله.
شمولية المعركة
من الواضح أن الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" كانت مسألة وقت فقط، بدليل ما أعلنه رئيس الأركان هرتسي هاليفي عن ضرورة استمرار الأعمال العسكرية، وقوله صراحة "إننا بحاجة إلى الاستمرار في مهاجمة حزب الله، لقد كنا ننتظر هذه الفرصة لسنوات".
الخطة الإسرائيلية بضرب "درّة تاج" الجمهورية الإسلامية، أهدافها أبعد من إعادة سكان مستوطنات الشمال وغيرها من التبريرات لشن الحرب واستمرارها. تدمير "حزب الله" أو إضعافه بالحدّ الأدنى يعني مباشرة سحب أقوى سلاح من يد طهران، وبالتالي تأثيره المباشر سيكون على امتداد ساحات "المحور" التي لعب فيها الحزب دوراً أساسياً بتشكيل التنظيمات المدعومة إيرانياً وتدريبها وتزويدها بما لديه من خبرات قتالية.
خسارة طهران للمكونات العسكرية التي أنشأتها، أمر لا يمكن القبول به. فذلك يعني خسارة استراتيجية لها، لأنه من شأن هذه التنظيمات أن تكون خطّ الدفاع الأول عنها، وعبرها تستطيع القول للعالم هذه حدود نفوذي في الشرق الأوسط وهذا ما أنا قادرة عليه. بناء على ذلك، في أي مفاوضات سابقة او مستقبلية، هذا النفوذ هو من أوراق القوّة التي تقارع بها طهران عواصم العالم، وبالتالي خسارتها لها تُعدّ إضعافاً لموقعها الجيوسياسي في الشرق الأوسط. وربطاً بذلك لا يمكن أن نغفل ما أعلنه نتنياهو قبل يومين أن الحرب من شأنها "تغيير الشرق الأوسط"، بعبارة أخرى، تغيير موازين القوى في هذه المنطقة.
إيران تُدرك ذلك تماماً، ومن خلفها الدول الكبرى الحليفة لها مثل روسيا والصين، فممّا لا شكّ فيه أن إضعاف الموقع الإيراني في الشرق الأوسط يعني إضعاف الموقف الروسي في وسط آسيا والقوقاز وأوكرانيا، وليس تفصيلاً إعلان المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف، الثلاثاء، أنّه ليس لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطط للتواصل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حالياً. وبالنسبة للصين إضعاف إيران وخسارتها كلاعب رئيسي على مسرح الشرق الأوسط يعني إضعاف لدور بكين العالمي على طريق الحرير.