"إذا كان ميتاً أو حياً فهو أمرٌ غير مهم. إن كان ميتاً، أحضِروه وألبسوه بعض النظارات الداكنة"... السيناتور الأميركي الأسبق جون ماكين عن حاكم الاحتياطي الفيدرالي الأسبق ألان غرينسبان.
أورد أستاذ الحكومة في كلية كينيدي غراهام أليسون هذا المثل ليشير إلى أن بعض المسؤولين يتمتعون بتأثير شامل حتى ولو لم يكونوا في مناصبهم. آمن كثر بقدرة غرينسبان على تفادي تداعيات المخاطر المالية في الأسواق خلال حكمه للاحتياطي الفيدرالي بين سنتي 1987 و2006، وصح ذلك إلى حد كبير حين منعت المؤسسة تحول أزمة 2008 المالية إلى أزمة كساد عظيم.
من هذا المثل، انتقل أليسون في مقاله بمجلة "فورين أفيرز" ليكتب عن استعداد العالم لعودة ترامب إلى البيت الأبيض سنة 2025. ذكر أليسون أن بعض الدول بدأت تؤجل خوض قرارات مفصلية بانتظار فوز ترامب، بالاستناد إلى أنها ستحصل على اتفاق أفضل في ولايته المحتملة (وقف بوتين لحرب أوكرانيا)، بينما عمد البعض الآخر (الأوروبيون والناتو) إلى إجراء تحوط لهذه العودة. حتى الملتزمون باتفاقيات الأطراف للمناخ يقومون باستثمارات تناقض تخفيف انبعاثات غازات الدفيئة. ووصف ترامب نفسه بأنه "رجل الرسوم" في تلميح إلى أن ولايته الثانية المحتملة قد تضعضع عالم التجارة المبني على القواعد.
وكان العالم مُحقاً...
كتب أليسون مقاله في كانون الثاني (يناير) الماضي. حتى في تلك المرحلة المبكرة نسبياً، كان العالم يتحرك استعداداً لهذا الاحتمال. ويبدو أن جهوده المفترضة لن تذهب سدى. فحظوظ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب للفوز لا تزال وازنة، حتى بعد التغيير المفاجئ الذي أصاب التذكرة الرئاسية الديموقراطية بانسحاب الرئيس جو بايدن من مسعاه إلى ولاية ثانية.
معدل شعبية هاريس على المستوى الوطني أعلى من معدل شعبية ترامب بهامش ضئيل (2.5 في المئة بحسب موقع "فايف ثيرتي أيت")، لكن معدل تأييدها في الولايات المتأرجحة شبه متعادل مع معدل تأييد منافسها. وباستثناء مفاجأة يمكن أن تخبئها اللحظات الأخيرة، وهي دائماً محتملة في هذه المرحلة من الحملات الانتخابية، يصعب أن توسع نائبة الرئيس هوامش تقدمها بشكل كبير قبل الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. لكن حتى مع افتراض فوز هاريس بالسباق الرئاسي، قد لا يتغير الكثير بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأميركية.
تأكيد آخر
في إصدار السبت من مجلة "إيكونوميست" البريطانية، ثمة الكثير من التوقعات (والأدلة) التي تفيد بحصول نوع من التقاطع ولو غير المقصود بين سياستي هاريس وترامب. "هو، لا هاريس، حدد شروط هذا التنافس. لقد أصبحت السياسة الأميركية ترامبية بشكل شامل"، كتبت المجلة.
وذكرت كيف أن سياسة الهجرة لدى هاريس تقضي بدعم أكثر مقترح إصلاحي محافظ في هذا القرن. كذلك، ستبقي سياستها التجارية على رسوم ترامب ولو معدلة. كما ستبقي معظم الخفض الضريبي الذي أقرته الإدارة السابقة، إلى جانب تأييدها التكسير الهيدروليكي بعد معارضتها السابقة له.
دائماً بحسب "إيكونوميست"، أصبحت الرؤى الديموقراطية أكثر تشدداً من رؤى ترامب تجاه الصين، وإن كانت أكثر ليونة على المستوى الخطابي. في الشرق الأوسط، لم تَدَع هاريس منافسها يتفوق عليها من اليمين، بالرغم من ضغوط حزبها لوقف الدعم العسكري لإسرائيل. وهي لا تبدو مستعجلة لإعادة إحياء الاتفاق النووي. وفي حين أن الفجوة بين المرشحين في دعم أوكرانيا قد تبدو الأوسع، يبقى أن تخلي ترامب عن أوكرانيا ليس مؤكداً، مخافة من أن يبدو ضعيفاً في حال ترك الدبابات الروسية تجتاح البلاد.
أدلة إضافية
يمكن الذهاب أبعد مما ذهبت إليه المجلة البريطانية في سرد بعض الأمثلة. في الملف الأوكراني، ربما تقترب هاريس أيضاً من بعض أفكار ترامب. قد يكون حديث الرئيس فولوديمير زيلينسكي المتكرر، ولو الخجول، عن استعداد للسلام نابعاً من قناعة بأنه حتى لو فازت هاريس بالرئاسة، فقد لا تكون المساعدات الأميركية المرتقبة أكبر من تلك التي حصلت عليها أوكرانيا منذ 2022. أولاً، لدى الكونغرس كلمته في مساعدة أو عرقلة إقرار هذا الدعم، وهذا ما اكتشفته كييف بشيء من الألم في خريف وشتاء 2023-2024. ثانياً، لا تبدو هاريس مستعجلة للحديث عن مصير أوكرانيا في "الناتو" إذ فضلت في مقابلة حديثة تأجيل البت في الموضوع إلى فترة لاحقة.
وفي ما يخص إيران، ثمة تصعيد كبير في لهجة هاريس، إلى درجة أن نبرتها تبدو أقرب إلى نبرة جمهورية منها إلى الخطاب الديموقراطي التقليدي في العقد الماضي. هي وصفت مؤخراً طهران بأنها "أعظم عدو" لواشنطن ولفتت إلى أنها تفضل الديبلوماسية كي تمنع إيران من تطوير قنبلة نووية، لكنها أكدت أن "جميع الخيارات مطروحة على الطاولة". كما نعتت "وكلاء" إيران في المنطقة بـ"الإرهابيين".
بصمة عملاقة
ربما لا يعبر هذا الكلام بشكل كلي عن نوايا هاريس الحقيقية تجاه إيران بما أنه صدر عنها خلال توجهها إلى مجموعة من الناخبين اليهود قبل عطلة عيد الغفران. وعلى أي حال، حتى الرئيس الأسبق باراك أوباما استخدم عبارة "جميع الخيارات على الطاولة" حين كان يعمل على الاتفاق النووي. مع ذلك، قد يتبين فعلاً أن الإدارة الديموقراطية المقبلة، في حال الفوز بالبيت الأبيض، ستكون أقل اندفاعة بشكل نسبي مما كانت عليه سابقاً تجاه استرضاء إيران.
لا تزال أميركا في ذروة حملاتها الانتخابية والتصريحات الصادرة عن المرشحَين الرئاسيين مخصصة بشكل أساسي لشد العصب ومناورة الطرف الآخر. لكن ذلك لا يلغي احتمال تراجع الفواصل السياسية البارزة بين الحزبين الكبيرين. يمكن أن يعود ذلك فعلاً إلى التغييرات التي أدخلها ترامب في واشنطن، أكان ذلك حين خدم في الرئاسة أو حين انتقل إلى المعارضة. من يدري، قد يتبين أن أليسون محق. ترامب هو غرينسبان الحياة السياسية الأميركية... وربما العالمية.