لم يعد يرغب أحد في التغنّي بالتحليلات والتكهّنات المستقبلية لما ستؤول إليه حياة لبنان، ولعلّ العبارة التي يتمنّى كل مواطن ألا يأتي على ذكرها هي "التاريخ يعيد نفسه". هناك توق إلى المستقبل... إلى تطلّعات الحياة وليس كوابيس التاريخ المحفورة بالحروب اللامتناهية. أمر اختبرته عندما شاهدتُ مقطع فيديو نشره الفنان وليد توفيق استعاد فيه مشهداً من فيلمه الشهير "من يطفئ النار" إلى جانب الراحلة ليلى كرم، وكان الحديث عن مدينة النبطية الجنوبية التي تعرّضت لمحو قسري لذاكرتها الإنسانية والتراثية والثقافية.
يتوجّه توفيق بدور "حسن" إلى "أم علي" (الراحلة ليلى كرم) معبّراً لها عن قلقه عليها وعلى العائلة بسبب اشتداد الغارات الإسرائيلية على النبطية. ويتابع سرده لها قائلاً: "المشاهد في المستشفى قطّعتلي قلبي"، لتردّ عليه "أم علي" بخطاب وطني متمسّك بالوحدة الوطنية "قلب بقلب ويد بيد".
وجدتُ نفسي ألجأ إلى هاتفي المحمول بحثاً عن اسم الفنان وليد توفيق. أرسلت له بعضاً من الأسئلة التي أردت أن أطرحها عليه بعدما أعادنا إلى العام 1982، لكنّه نطق في واقع 2024 الذي يحاكي العبارة المشؤومة "التاريخ يعيد نفسه".
ألم الماضي وتأمّلات الحاضر
على وقع دوي جدار الصوت الهدّار، وصلني الرّد الأول من توفيق، وعبر صوته الذي توقّف لثوانٍ من شدّة الغصّة، وجدت متنفساً لي لمشاركة الوجع.
يقول توفيق لـ"النهار": "منذ أن غادرنا لبنان ونحن مسمّرون على مدار 24 ساعة أمام الشاشة. نعم، أعلم الإحساس، اختبرناه قبل مغادرتنا بيروت. عسى أن يكون الله في عونكم وعون المواطنين الذي يسمعون هذا الخرق الدائم لجدار الصوت، أمر فظيع".
ويتابع: "قبل أن أغادر أرض الوطن رأيتُ الناس في الشوارع وعلى الأرض، ودّعت والدتي وشقيقتي وأخي، كانت لحظات صعبة عشتها ويعيشها كلّ لبناني".
الخوف على مصير الوطن
مشاعر توفيق كأيّ إنسان صادق يشعر بوجع داخلي: "خائف على أهلي وأصدقائي، خائف على مصير لبنان، لا رئيس جمهورية ولا حكومة، أموالنا ذهبت... ليس سهلاً أبداً".
أعود إلى مدينة النبطية والفيديو الأرشيفي، فيسارع توفيق إلى التعليق: "النبطية حرقتلي قلبي، عندما رأيت الدمار الذي حصل فيها. أعرفها جيداً وصوّرت فيها مقاطع من فيلم "من يطفئ النار" وأعدنا نشر المقطع الذي قلناه في العام 1982، أصلّي لهذا البلد لأنني خائف من القادم".
يسرد "خبريات" الحرب المقيتة: "عشنا مجدداً ذكريات الحرب التي اختبرناها في العام 1975، حينما هربنا إلى الطرقات واختبرنا انقطاع الماء والكهرباء، ذكريات لا تزول، نحن جيل حرب لا زلنا بعد خمسين عاماً نختبرها بالدوامة نفسها".
يقول: "أنا لبناني وأفتخر أنني من طرابلس الفيحاء لكنني فنان لكلّ لبنان والعرب ووجعي يمثّل وجع كلّ لبناني وعاتب على صمت العالم بينما شعبنا يشرّد".
بيد أن توفيق يعود ليلفت إلى أنّ ما أثلج قلبه سببه "تعاطف وقوف الدول العربية على رأسها المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة وقطر والأردن. الرسالة واضحة: لبنان بلا حضن عربي فاقد لأهله وناسه، من دون محيطنا العربي نبقى ضعفاء".
نداء للوحدة الوطنية
ووجّه توفيق عبر "النهار" رسالة إلى بلده لبنان: "الوحدة الوطنية تجلّت من الشمال إلى بعلبك إلى الجبل إلى كلّ المناطق لاستقبال أهلهم وناسهم وأخواتهم من جميع المناطق في بيوتهم. علينا أن نستغلّ ذلك بتلاحم أكثر وأن نكون يداً واحدة في هذا الزمن الصعب الذي نعيشه اليوم، فأنا لا أريد أن أشهد على حرب أهلية جديدة".