في جنوب لبنان، حيث يتجلّى الألم والذكريات، هجّرت إسرائيل البشر وفجّرت الحجر. لم تُشفِ الإبادة بحق الشعب اللبناني غليل حقدها، فانقضّت على ذاكرتنا الثقافية والتاريخية والإنسانية. في العديسة الجنوبية، كان منزل الفنان الراحل عبد الحميد بعلبكي، الذي لم يُبنَ ليكون مجرد مسكن، بل ليكون متحفاً عاماً يروي تاريخ لبنان الشفوي.
اليوم، صار هذا المنزل أثراً، وشاهداً على حرب لم تستثنِ أحداً ولا شيئاً، ولا حتى المقابر، كما حدث في النبطية وصور. لقد كان التفجير الذي استهدف منزل بعلبكي جريمةً موصوفة، إذ لم يُنظر إليه على أنه مجرد تفجير منزل، بل كان هجوماً على الذاكرة الجماعية للفن والثقافة.
في منزله الكائن بالعاصمة بيروت، نطق وجه نجل الراحل، المايسترو لبنان بعلبكي، بكل شيء، وطرح تساؤلاً يومياً يخالج كل لبناني: "لا أعلم كيف سيكون وقع سؤال "كيف حالك؟" على كل منّا. المؤسف أننا كلّما انتهينا من أزمة، ندخل في أخرى أسوأ بسبب الظروف التي نمرّ بها. ما يحصل لنا نوع من اضطهاد لا مثيل له في التاريخ".
بنى الرسّام والنحّات والشاعر الراحل عبد الحميد بعلبكي منزله في العديسة كجزء من مشروع لإنشاء متحف فنّي في هذه المنطقة تحديداً. يقول بعلبكي: "كان لديه حلم لبناء صرح فني في هذه القرية وفي هذه المنطقة. حلم لم يرغب في مفارقته حتى بعد رحيله، فقد دفن بجانب والدتي في حديقة المنزل، لأن البيت كان يعني لهما كثيراً على المستوى الشخصي ويعكس حبهما للفن وارتباطهما بجذورهما. كان بالنسبة لنا جميعاً مثل إشعاع نور".
بعد وفاة والد بعلبكي عام 2013، تم تنظيم رحلات للطلاب لزيارة المنزل والتعرف إلى الأعمال الفنية الموجودة فيه، وكذلك على محترف الفنان الراحل، وألوانه، ومكتبته، واللوحات التي تزيّن جدرانه. كان هذا المنزل يمثّل حلم الأسرة في تجميع كل أعمال والدهم الفنية، إلى جانب الكتب والتحف والمخطوطات، وعرضها في مكان يُفترض أن يكون آمناً ومفتوحاً للعالم، وفق ما يسرد بعلبكي.
مشهد التفجير حرّك الوجع في قلوب آل بعلبكي، وأصبح حلمهم يتمثل في عدم تأثر ضريح والديهم بهذا الدمار. هذا الألم يتقاسمه جميع أفراد الأسرة، وقد تجلّى في مشهدٍ مأساوي من التدمير الممنهج الذي تعرضت له القرية بأكملها. فقد تعرّضت البيوت لتفجيرات، حيث تم استخدام أسلاك تفجيرية لربطها، ما أسفر عن مشهد مروع من الخراب.
يقول بعلبكي: "كان الشعور المؤلم مشتركاً بين جميعنا في البيت، وكان هذا المشهد الأكثر تأثيراً. ففي مشهد التفجير الذي انتشر، تعرّض الحي بأكمله أو القرية كلها للتدمير. كان هناك تدمير ممنهج؛ هناك من دخل مرتاحاً وقام بتفخيخ البيوت وربطها بعضها ببعض بواسطة أسلاك تفجيرية، ثم ضغط على زر التفجير".
يتابع: "لا نعلم متى تتاح لنا الفرصة للعودة إلى أرضنا ونلملم جراحنا، لكنّي أعلم أن كل إنسان في هذا البلد لديه خسارته، وكل فرد ينظر إلى خسارته على أنها الأشد فداحة. ربما خسارتنا ليست أكبر من خسائر الآخرين، لكن بالنسبة لنا، هي أسوأ حزن يمكن أن نعيشه بعد رحيل والدي ووالدتي".
وبالرغم من الألم والخسائر، تظل الرسالة أصيلة ومتوارثة في عائلة بعلبكي. إنهم يؤمنون بمواصلة العمل من أجل تحقيق حلم والدهم في إنشاء متحف يظل شامخاً، يروي قصة لبنان ويحتفي بتراثه الثقافي والفني. هم يؤمنون بوطنهم وبالرسالة التي نشأوا عليها، ولن يتخلّوا عنها.