النهار

مهرجان لوميير: الفنّ السابع في عاصمة السينماتوغراف نمط حياة وتقليد وعراقة
هوفيك حبشيان
المصدر: النهار
مهرجان لوميير: الفنّ السابع في عاصمة السينماتوغراف نمط حياة وتقليد وعراقة
إيزابيل أوبير خلال تكريمها (بيار فيراندي)
A+   A-
عادت ليون إلى الواجهة الدولية، منذ تأسيس مهرجان لوميير السينمائي قبل خمسة عشرة عاماً. استطاع المؤسسان، الراحل برتران تافرنييه وتييري فريمو، موضعة هذه المدينة على الخريطة السينمائية، أو ربما اعادتها إلى مكانتها، بعدما كانت هي المدينة التي وُلدت فيها السينما قبل 129 عاماً على يد الأخوين لوميير الرائدين. 

لا شيء مفتعلاً في حبّ الناس للفنّ والثقافة، بل هو حبّ أصيل متجذّر في تقاليد وعراقة. الآلاف يزحفون إلى الصالات طوال تسعة أيام. حتى أكثر العروض التي لا نتوقّع فيها حضوراً، نجدها مكتظة بمتفرجين من الأعمار والخلفيات الاجتماعية كافة. فعل المشاهدة في ليون تراث ونمط حياة وتواصل مع آخر المستجدات التي تأتي من أنحاء العالم، وقد تكون مستجدات فكرية وجمالية غير محصورة في اطار المعلومات. 

السينما للجميع
المهرجان الذي يرفع شعار "السينما للجميع"، أقام هذا العام دورته الخامسة عشرة من 12 إلى 20 تشرين الأول. عروض لأفلام كلاسيكية مرمّمة، تذكير بأعمال سقطت في النسيان أو هُمِّشت، ماستركلاسات لأسماء بارزة في عالم الإخراج والتمثيل (جوسيبي تورناتوري، كوستا غافراس، كزافييه دولان، إيسيار بولاين، بينيسيو دل تورو، أليخاندرو خودوروفسكي الذي عُرضت له ثلاثة أفلام في سهرة طويلة)، تحيات، حفلات عزف أوركسترالي ترد الاعتبار إلى السينما الصامتة، معارض، وغيرها الكثير من النشاطات التي تنشر الثقافة السينمائية ماضياً وحاضراً، مع نبذ أي شكل من أشكال الهرمية والأفضلية بين سينما شعبية وسينما نخبوية.

أما ذروة المهرجان فتتجسّد كما كلّ عام، في منح جائزة رفيعة: جائزة لوميير. نالتها إلى الآن قامات كبيرة في الإخراج والتمثيل، من مثل مارتن سكورسيزي وميلوش فورمان وكن لوتش وكاترين دونوف وجيرار دوبارديو. عملاق السينما الأميركية كلينت إيستوود (94 عاماً) أول من نالها في أول دورة عُقدت عام 2009. هذا العام، أُسنِدت الجائزة الى الممثّلة الفرنسية إيزابيل أوبير (71 عاماً)، خلفاً للمخرج الألماني فيم فندرز، وفي هذه المناسبة جرى عرض استعادي لمجموعة من 13 فيلماً لها.

عشية حفل الختام، أُقيم تكريم مهيب على شرفها في مركز المؤتمرات، استمر لأكثر من ساعتين قُدِّمت خلالهما الأغاني والخطب التكريمية ومقاطع فيديو عن أهم أدوارها في عدد من أشهر أفلامها. ضيوف وشخصيات رفيعة من الوسط السينمائي والفني والثقافي شاركوا في السهرة لتكريم الممثّلة التي أطلت في سبعة أفلام تحت إدارة كلود شابرول. أما الجائزة فتسلّمتها من يد المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون الذي جاء ليقدّم مسلسله الأخير، "ديسكلايمر".

مكافآت للجميع
هناك مكافأة ما لكلّ مشاهد في مهرجان لوميير. مَن أراد أفلام رعب ضمن سهرة تستمر حتى بزوغ الفجر في قاعة توني غارنييه التي تسع لخمسة آلاف مشاهد وأكثر (يُقام فيها الافتتاح)، فليس عليه الا ان يبتاع تذكرة ليشاهد ثلاثة أفلام رعب دفعة واحدة من اختيار المخرج ألكساندر أجا.

أما الذي يفضّل مغامرة اكتشاف أفلام تحتاج إلى فضول لاكتشافها، فهناك قسم "كنوز ولُقيات" (ترجمة حرة لـTrésors et curiosités) يجمع أفلاماً لم يُسلَّط عليها الضوء كثيراً. بين هذا وذاك، يقترح المهرجان عدداً من الاستعادات المهمة والقيمة. 

مهرجان لوميير بأماكن حدوثه وصالاته الكثيرة، وبمعهده الأشبه بخلية نحل خلال أيام انعقاده، هو معبد للسينيفيلية الفرنسية والأوروبية. تدخل إلى صالة يسمونها "الهنغار"، تجلس في مقاعدها، وهي مقاعد، كلّ واحد منها يحمل اسم مخرج أو مخرجة. الجمهور ليس فقط حاضراً بقوة ومواكباً، رغم ان المعهد لا يقصّر معه على مدار العام من العروض والاستعادات والاحتفالات، بل هو جمهور يتفاعل مع ما يُقدَّم اليه بإيجابية شديدة. في هذه الأجواء من السينيفيلية، قدّمت المخرجة الفرنسية جوستين ترييه التي نالت العام الماضي "السعفة الذهب" عن فيلمها "تشريح سقوط"، حصّة عن أفلامها المفضّلة، فتحدّثت خلالها عن تلك التي تركت فيها أثراً بالغاً. هذه فقرة جديدة استحدثها المهرجان وقد تستمر. نفهم رغبة الإدارة في اطلاق المبادرة بمخرجة ذاع صيتها أخيراً، لكن هناك مَن يتجاوزها باعاً وخبرةً واطلاعاً على السينما. 

تفصيل صغير
عموماً، هذا تفصيل صغير من بين عدد هائل من الأفلام التي تُعرض بالتوازي في أرجاء المتروبول الذي يعيش لتسعة أيام متتالية على إيقاع الفنّ السابع، لكن فقط عند المهووس بقصص الآخرين على الشاشة. ولا متعة أكبر من الانتقال من هذه البقعة إلى تلك من المدينة، للعودة بالزمن إلى السبعينيات والخمسينيات أو إلى فجر السينما، حيناً في صالة تسع بضعة عشرات من المشاهدين، وحيناً في قاعات شاسعة أدهشت أكثر من سينمائي عندما زارها. في يد، جدول العروض، وفي ثانية الهاتف المحمول الذي يتيح لي الاستدلال على الطريق. 

هكذا هي يوميات اللحاق بالأفلام في مدينة مفعمة بالحياة يحدث فيها ألف شيء وشيء بالتوازي، وليست السينما سوى نقطة في بحر. 

في اليوم ما قبل الأخير، يجتمع الكلّ لإعادة تمثيل أول فيلم في تاريخ السينما، "الخروج من مصنع لوميير في ليون" (1985) في المكان الذي صُوِّر فيه، بقيادة الحائز أو الحائزة جائزة لوميير، وكأنه يُراد من تلك اللحظة السينمائية التي لا تتجاوز الـ45 ثانية، تكرارها كي تبقى حيّة إلى الأبد. 

اقرأ في النهار Premium