أعادني مشهد الشاب اللبناني أحمد عمّار إلى فيلم "عازف البيانو" من بطولة الممثل أدريان برودي الذي قدّم أداء استثنائياً في دور عازف البيانو البولندي اليهودي فلاديسلاف شبيلمان، الذي نجا من ويلات الحرب العالمية الثانية والمحرقة بفضل موهبته في العزف.
من أشهر مشاهد الفيلم وأكثرها تأثيراً، مشهد عزف برودي لمقطوعة Nocturne in C-sharp minor للموسيقار فريدريك شوبان أمام ضابط ألماني في منزل مهجور في وارسو، مشهد ترجم معنى المقاومة عبر الفنّ في مواجهة الوحشية، إذ يعزف شبيلمان المقطوعة برهافة ومهارة فائقة، تُبرز معاناته وتكسر الحواجز بينه وبين الضابط الألماني الذي بدا عليه التأثر بموسيقاه.
هذا المشهد نفسه الذي نقل معاناة مواطن يهودي من هول الوحشية الألمانية، اختبره المواطن اللبناني أحمد عمار الذي أراد أن يقاوم هو الآخر عبر الفن في وجه الوحشية الإسرائيلية التي سلبته منزله ودمّرته.
خسر أحمد منزله الكائن في منطقة برج البراجنة عندما كثّفت إسرائيل غاراتها على الضاحية الجنوبية لبيروت. حمداً لله أنه لم يصب وعائلته بمكروه لأنّهم كما الكثير من اللبنانيين، نزحوا من المنطقة في الوقت المناسب. وأمام الحزن الذي اعتراهم لخسارة الحجر، بقي القلب على ما يعتبرها أحمد "جوهرة" تمنّى ألّا يصيبها مكروهاً، إنّها آلة البيانو، أغلى المقتنيات على قلبه وقلب والده مهندس الصوت يحيى عمار.
يسرد أحمد في حديث لـ"النهار" أنّ قلبه تألّم لرؤيته الحي الذي نشأ فيه والدمار يأكله، وأوّل ما قام به هو توجهه إلى منزله المدمّر، حاملاً معه أملاً مكسور الخاطر: "هل البيانو لا زال صامداً؟... حمداً لله لقد نجا". وبات همّه نقل البيانو من الركام، فالعلاقة التي تجمعهما تخطّت كونها آلة إيقاعية، بالنسبة إليه عنصراً مهمّاً لصموده.
يتابع: "لقد استهدفت إسرائيل منازل متاخمة لمنزلنا في برج البراجنة، وتسببت الشظايا المتطايرة باندلاع حريق داخل منزلنا، احترق كلّ شيء ونجا البيانو".
حضرت الشاحنة، حُمّل البيانو ووضع فيها، لكن من كثرة "فرحة" أحمد أراد أن يطمئن بأنها بخير، وضع أنامله على مفاتيحها وعزف مقطعاً من أغنية للفنان اللبناني المعتزل فضل شاكر: "معقول إنساك".
يقول والد أحمد، يحيى الذي صوّر الفيديو بعدسة كاميرا هاتفه: لـ"النهار": "أولًا، نحن نفتخر بلبنان وباللبنانيين الذين يبنون لبنان ويحبّونه. نحن، مثل كثيرين غيرنا، اضطررنا إلى ترك منزلنا، وبعد فترة قصيرة انهارت البناية المجاورة لنا، واشتعلت النار في بيتنا والمستودع. نقول الحمد لله على كلّ شيء.".
يتابع: "بعد يومين أو ثلاثة نزلنا لنرى ما حلّ بالمكان، لنتفقّد البيت المحروق والمتفحّم من الداخل. لكن، بالصدفة، حين كنت أتفقّده، وجدت أن البيانو بقي كما هو. لم نصدّق، أرسلنا موظفين وشاحنة ليأخذوا البيانو، وضعوه في الشاحنة، وبدأ ابني يعزف عليه."
من دون أن يشعر يحيى، أخذ وثّق هذه اللحظة المؤلمة، صوّر أحمد والبيت والحياة التي غدت عليها المنطقة المدمّرة: "نقول الحمد لله على كل شيء، فالبيوت تُعمر من جديد. وأشكر كلّ دولة تريد مساعدة لبنان، لأنّ لبنان دائماً يتلقّى الدعم من الدول، ولبنان يحبّ الجميع بصدق."
بالنسبة إلى يحيى "ابني ربما لا يعرف حمل السلاح، لكنّه يقاوم بالموسيقى. وأنا لا أعرف حمل السلاح، لكني أعرف كيف أوفّر لقمة العيش لعائلتي، وكلّ هذا يُعدّ نوعاً من المقاومة، وهناك مقاومون يحملون السلاح ويحاربون، هذه هي طبيعة الدنيا.