قبل أيام، وجدت نفسي منهمكةً في مهمّة روتينية تبدو بسيطة: ترتيب خزانتي. لكن ما بدأ كتنظيف عادي سرعان ما تحوّل إلى رحلة استكشاف ذاتية جعلتني أعيد النظر في نمط حياتي كله. أمامي كانت تتكدس الملابس التي نادراً ما أرتديها، وإكسسوارات كنت قد اشتريتها يوماً بحماس، لكنها الآن مستلقية في صناديق وليس هناك من يتذكّرها إلا في المناسبات (وما أقلّها!). كانت الأدراج مليئة بأجهزة إلكترونية اشتريتها ثم نسيتها. لحظتها، أدركت أن الفوضى المادية هذه لم تكن سوى مرآة تعكس أجزاءاً أخرى من حياتي، بما فيها الفوضى الرقمية التي ملأت أجهزتي، رسائل البريد الإلكتروني التي لا نهاية لها، وتنبيهات الهاتف المزعجة. هنا بدأت أتأمل في "التقليليّة" Decluttering، ليس فقط كوسيلة للتنظيم، بل كوسيلة لإعادة التركيز واستعادة السلام وسط سرعة الحياة المعاصرة.
لطالما ارتبطت التقليليّة في أذهاننا بالأشياء البسيطة، بمساحات نظيفة ومنظمة، وخزائن مرتبة. لكنها في الواقع أكثر من مجرد إزالة أغراض غير مستخدمة؛ هي نمط حياة يرتكز على اختيار ما هو ضروري حقًا، سواء أكان ذلك في الأشياء التي نمتلكها، أم حتى في الأفكار التي نحتفظ بها. لقد كان أينشتاين يقول: "إذا لم تستطع شرح فكرتك ببساطة، فأنت لم تفهمها جيدًا." هذه العبارة جعلتني أرى أن البساطة ليست مجرد فكرة للتنظيم، بل هي طريقة للتعمق في الجوهر وفهم الحياة على نحو أفضل.
وبينما كنت أنظر إلى الأشياء التي لم أعد بحاجة إليها، بدأت أدرك أن التخلّص من الفوضى المادية يفتح باباً لإعادة ترتيب الأولويات، تمامًا كما يفعل التقليليّون عندما يختارون بحكمة ما يحتفظون به وما يستغنون عنه. لقد تبيّن لي أن هذه الفوضى لم تؤثر فقط على نظافة الغرفة، بل على ذهني أيضاً؛ فقد كانت تستنزفني يومياً بطرق لم أكن أدركها. بدأت أفكر في أن التقليليّة هي خطوة أولى نحو الاستقرار، حيث نعيد ترتيب المساحات من حولنا لتصبح أكثر هدوءًا، ونستطيع أن نستمتع براحة بال كانت تختفي في وسط التكدّس.
حينما ألقيت نظرة حولي، أدركت أن هناك فوضى أخرى، غير مرئية، وهي الفوضى الرقمية: ملفات متراكمة على الحاسوب، ورسائل البريد الإلكتروني المكدسة، والتنبيهات التي لا تتوقف. قد تكون الفوضى الرقمية خفية لكنها لا تقل إزعاجاً عن الفوضى المادية. أظهرت الدراسات أن هذه الفوضى الرقمية تستهلك الكثير من طاقتنا العقلية وتؤثر على قدرتنا على التركيز. كانت هذه خطوة مهمة بالنسبة لي للتخلص من هذه الفوضى أيضاً، بدأت بإلغاء الاشتراكات التي لم أعد بحاجة إليها في قوائم البريد الإلكتروني، ونظّمت الملفات وأعدت ترتيبها بشكل يجعل الوصول إليها أكثر سهولة.
في لحظات تأملي في بساطة حياتي، قفزت إلى ذهني فكرة بسيطة لكنها عميقة من حياة ألبرت أينشتاين، عالم الفيزياء العبقري. كان أينشتاين يؤمن بأن البساطة تقود إلى التركيز، وأن الفوضى والتفاصيل الزائدة تعيق الإنسان عن الوصول إلى الأفكار العميقة. هذه الفكرة لم تكن مجرد شعار لأينشتاين؛ لقد جسّدها في حياته اليومية بكل تفاصيلها. كان أينشتاين لا يهتم بتغيير مظهره بشكل دائم، إذ اشتهر بارتداء نفس النوع من الملابس اليومية وتجنب اختيار أنواع وألوان مختلفة، لأن ذلك، في نظره، يستهلك من طاقته الذهنية ووقته، الذي يمكن أن يخصّصه للتفكير في أمور أكثر نفعاً وإنتاجية.
التقليليّة، كما أدركتها من تجربتي الشخصية، ليست فقط أسلوباً لتقليل الممتلكات، بل هي فلسفة تعزّز التوازن والهدوء. فمن خلال التخلّص من الفائض، نسمح لأنفسنا بأن نعيش بوعي أكبر، ونترك المساحة للأشياء التي تُضيف إلى حياتنا قيمة حقيقية. كنت أقرأ عن فوائد التقليليّة، وأدركت أنها تحسن التركيز، وتقلل التوتر، بل وتسهم في تحسين جودة النوم، فتأثيرها يتجاوز مجرد ترتيب المساحات إلى تعزيز الصحة النفسية. كلما قلّت الممتلكات التي تحيط بنا، زاد إحساسنا بالسيطرة على بيئتنا، وأصبحنا قادرين على رؤية الأمور بوضوح أكبر.
التقليليّة كطريقة حياة تُتيح لنا الاستمتاع بالأشياء التي تحمل قيمة حقيقية، بدلًا من التشتت بأشياء غير ضرورية. وعندما أتأمل كيف عاش أينشتاين حياته، أراه قد تبنّى هذه الفلسفة بطريقة غير مباشرة؛ فقد اختار أن يركز على جوهر الأشياء، وأن يتجنّب التعقيدات، سواء في العلم أو في الحياة. لم تكن هذه الفلسفة مجرد تنظيم عادي بالنسبة له، بل كانت وسيلة تعكس رؤيته المتعمقة للكون، وتعزّز شعوره بالتركيز والهدوء.
بدأت هذه الفكرة تترسخ في حياتي بشكل متزايد، وأصبحت أعيد التفكير في الأغراض التي أمتلكها، والعلاقات التي أستثمر فيها وقتي، بل وحتى التطبيقات التي أستخدمها على هاتفي. أدركت أن التقليليّة تتطلّب متابعة مستمرة، وليس مجرد يوم تنظيف عابر. وباتت لي عادةً بين حين وآخر أن أعيد ترتيب هذه الأمور، حتى لا تعود الفوضى مرة أخرى، فتسيطر على حياتي.
في ظل نمط حياتنا المعاصر المتسارع والذي يميل نحو الاستهلاك المفرط، باتت التقليليّة أشبه بملاذ من الهدوء، وسط ضجيج المشتريات والرسائل والمشاغل اليومية. حينما نتبنى هذا النمط، ليس الهدف الحرمان من الأشياء، بل اختيار الأفضل منها. فكلما قلت الفوضى، سواء في المحيط المادي أو الرقمي، زادت قدرتنا على عيش حياة متوازنة ومليئة بالراحة النفسية.
التجربة التي خضتها لم تكن مجرد تخلّص من أغراض قديمة أو إعادة ترتيب للملفات، بل كانت نقلة عميقة إلى أسلوب حياة يجعلنا نقدّر البساطة، ونرى قيمة الجوهر. هي تجربة جعلتني أشعر أنني أعيش بتركيز أكبر ووضوح أكثر، وأنني بدأت أكتشف جمالاً جديداً في الأشياء البسيطة التي تحمل قيمتها الخاصة.