عام 1985 أصدر الكاتب الألماني باتريك زوسكيند رواية "العطر" التي يتحدث فيها عن طفل ولد في سوق السمك وتتخلى عنه والدته لاحقاً. وبعدما شب الطفل اكتشف بالصدفة أن لديه حاسة شم خارقة غير مألوفة تمكنّه من التقاط أصغر التفاصيل من روائح موجودة على جلد الإنسان والحيوان، وأي شيء آخر، ومن ثم يستخرج منها تركيبة عطور غريبة. الرواية تحوّلت في عام 2006 إلى فيلم حمل الاسم ذاته وحقق إيرادات خيالية إلى جانب حصوله على جوائز عدة.
القصة برمّتها كانت خيالية من وحي كاتبها، لكن في الواقع هناك حالة مشابهة لبطل الرواية وليست ضرباً من الخيال، بطلها يعيش في إمارة دبي داخل سوق الذهب في نطاق منطقة الديرة التراثية (جنوب دبي) هو يوسف باي أو "طبيب العطور" كما يلقبه زبائنه وأهل المنطقة وكل معارفه داخل الإمارات أو خارجها.
عام 1993 وصل يوسف محمد علي إلى دبي قادماً من موطنه الهند، وقبل أن يدخل مجال العطور عمل خمس سنوات في مهنة التصوير، لكن هذه الموهبة لم تكن وليدة الصدفة وفق ما يقول في لقاء مع "النهار العربي".
"كنت أعيش في قرية مليئة بالغابات والنباتات المتنوعة، وقبل ذهابي إلى مدرستي كنت أقصد تلك الغابات لتنشق الروائح التي كانت لدي المقدرة على حفظها في ذاكرتي واستعادتها في مخيلتي".
يعتبر "طبيب العطور" أن ما لديه هو موهبة من الله وهي موجودة عند بعض الأشخاص، لكنه استطاع تطويرها وبلورتها لدرجة مقدرته على حفظ آلاف الروائح ومن ثم تحليلها في مخيلته ليذهب ويستخرج منها العطر.
سيدة طلبت رائحة زوجها الراحل
يقول الخبير: "في إحدى المرات زراتني سيدة هندية تحمل قميص زوجها المتوفى وطلبت مني شم القميص لأستخرج لها عطره، رفضت إعطائي القميص لأسبابها الخاصة لكني بمجرّد شم الرائحة حفظتها وبعد أيام عادت لتأخذ رائحة زوجها في قارورة صغيرة، ليس ذلك فحسب، أحياناً يأتيني أشخاص معهم قمصان أو قطع قماش أو أشياء متعلّقة بأشخاص (علب خشبية – مناديل – قطع قماش) عليها بصمات من رائحتهم ويطلبون مني استخراج عطرهم".
من يزر فروع محاله في منطقة الديرة فسيصادف عدداً كبيراً من الناس من كل الجنسيات يأتون حاملين قطعاً وأغراضاً وقوارير فارغة يطلبون منه صناعة عطر منها، كما أن بعضهم يطلب التقاط صور معه وكأنه نجم بوليوودي وله أكثر من 3 ملايين متابع على منصة "إنستغرام".
ويخبر يوسف باي (وهو لقب أطلقه عليه زبائته أيضاً ومعناه الأخ يوسف) أن بعضهم يأتي إليه لاستخراج روائح من أحباب هي روائح الجلد والشعر وحتى الدم، وعلى رفوف متراصفة بالعشرات ستجد أكثر من ألفي عطر بينها ما هو مألوف، لكن معظمها لا يمكن تصديق أنه عطر لولا التجربة الشخصية.
كرسي سيارة لأستخرج منها رائحة صاحبها
"مرة أتى شخص يحمل كرسي سيارة عليه رائحة عزيز له فُقد في حادث ربما، وطلب مني صناعة عطر منها وهذا ما حصل، كذلك من الأمور الغريبة أن معظم الرجال والنساء يأتونني لطلب عطر يثير عواطف الشريك أو شخص معجبين به، أقول لهم إن هذا الأمر غير صحيح، والمسألة ليست شعوذة لكنهم يصرّون، في الواقع لا عطر يحرّك العواطف أو يجلب الحبيب، العطر هو للراحة النفسية وتعديل المزاج ليس أكثر".
يضيف "طبيب العطور": "الموضوع ليس تعلّم تركيب العطور، هذا سهل، لكن أولاً الموهبة من الله ثم الذكاء والحنكة في كيفية تركيب هذه المكونات وخلطها والمعايير والمقادير لكي نخرج بعطر مميز ويدوم طويلاً".
على الرفوف يمكن أن ترى قوارير مستخرجة من بقايا الطيور والحيوانات الأخرى، وقوارير رائحة "الفيرومونز" الخاصة بالرجال والتي تحبها النساء (وفق دراسات أكاديمية علمية). محبو النوتيلا والبسكويت والمشروبات الغازية لهم حصة من تلك العطور، حتى أن رائحة "الكوكايين" لها نصيب.