قالها محمد جمال في إحدى أغنياته: "بتبقى شب ولو عمرك فوق المية". وبيننا من يعدّ السنين ولا يحصيها. تظهر ندوب على الوجه، وتجاعيد حول العينين، لكن قلبه لا يشيخ. تسأله عن عمره، فيُجيبك "عشرين"، وعمره أكثر من "أربعين".
الأمر كله مرتبط بكلمتين: "وجهة نظر". تقول جينيفر سينيور في "ذا أتلانتيك"، إنها لن تجد إنساناً يظن أنه أطول مما هو فعلاً، أو أقصر، أو إنساناً ألا يحدّد موقعه في المكان، وفقاً لما يسمّيه العلماء "الحس العميق"، لكنها تجد من يستصعب تحديد موقعه في الزمان. وتروي عن أحد أصدقائها الذي اقترب من ستّينياته قوله، إنه في كل مرّة ينظر إلى نفسه في المرآة، لا يستاء مما يرى، إنما تنتابه الدهشة، "فأشعر أن ثمة خطأ ما" كما يقول بالحرف.
فجوة ضوئية
تقول سينيور: "تُقاس هذه الفجوة بين عمرنا الحقيقي والعمر الذي نظنه عمرنا الحقيقي بالسنوات الضوئية، أو بعدد لا بأس به من سنوات عصور ما قبل التاريخ". وهذا ليس قولاً من عبث، إنما هو مدعوم بدراسات تبحث في هذه الظاهرة، تفتقر في معظمها إلى الخيال، وتعود أصولها إلى علم الشيخوخة، يُسأل المشارك فيها عن العمر الذي يظنه عمره الحقيقي، فلا يفهم السؤال، ويظنه عن "العمر الذي تظنه عمرك جسدياً"، ما ينتج نتيجة لا تفاجئ أحداً: من يشعر أنه أكبر من عمره، فمحتملٌ جداً أنه أكبر من عمره، وهذا يساوي حسابياً أنه يطعن في السن بالخطوة السريعة.
ثمة سؤالان: "كم ’تشعر‘ أنك بلغت من العمر؟"، سؤال مختلف تمامًا عن "كم ’تقتنع" أنك بلغت من العمر؟". ثمة بحثٌ - تصفه سينيور بأنه "ملهم في تناوله العمر الذاتي" - طُرح هذان السؤالان في عام 2006 على 1470 شخصًا من أهل الدنمارك، توصّل إلى أن البالغين الذين تزيد أعمارهم على 40 عامًا يشعرون بأنهم أصغر من عمرهم الفعلي بنحو 20 في المئة. ويقول ديفيد سي روبين (75 عامًا بالفعل، و60 عامًا بالشعور)، أحد مؤلفَي البحث وأستاذ علم النفس والأعصاب في جامعة ديوك: "البيانات رائعة والمنحنيات جميلة"، كيف لا.. وروبين وشريكته في البحث، دورث بيرنتسن، لم يجعلا الشيخوخة محور بحثهما، ما دامت أغلبية الناس تصور الشيخوخة بصورة الـ"كارثة".
بحسبهما، ثمة تعريف آخر للتفاؤل: أن تنظر إلى المرآة فترى نفسك أصغر من عمرك. وهذا ليس إنكاراً، أبداً. فثمة من يدفعه هذا النوع من التفاؤل إلى أن يتوقف في إحصاء سنوات عمره عند سنٍّ يتخذ فيها قرارات مصيرية، أو يخطو فيها خطوات جبارة، شخصياً أو مهنياً. تخبرنا سينيور أن ريتشارد بريموس، أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في جامعة ميشيغان، يقول: "طرح المشتغلون في اللاهوت المسيحي في العصور الوسطى سؤالاً مثيراً: كم عمر الناس في الجنة؟. فكانت الإجابة حينها 33 عاماً. فهذا عمر يسوع الناصري حين صلبه".
وتعلّق سينيور: "ثمة رجل عالق في عمر 32 عامًا، يعجز عن رؤية نفسه أكبر من شقيقه الذي مات؛ وامرأة علقت طويلاً في سن الثانية عشرة، العام الذي انضمّ فيه والدها إلى طائفة دينية غريبة، وتحوّلت حياتها إلى كابوس حقيقي".
نفوس عتيقة!
ما شعر كل من حادثتهم سينيور بأنهم أصغر من أعمارهم، فكان عدد قليل ممن تسمّيهم "نفوس عتيقة" مختلفاً، أي يشعرون بأنهم أكبر من أعمارهم. شعرت هي نفسها بأنها في الأربعين حين كانت في العاشرة من عمرها، "فلم تكن ثرثرة الفتيات الأخريات قاسية فحسب، بل كانت مملّة أيضًا، وشعرت بأنني في الأربعين عندما كنت في الثانية والعشرين من عمري، وعندما كنت في الخامسة والعشرين حين أدركت أنني كنت أهوى صحبة كبار السن. وعندما بلغت الأربعين فعلياً، شعرت بالارتياح، كما لو أنني حققت أخيرًا نوعًا من التوافق بين زمني الداخلي وزمن الكون".
إن ابتعدنا قليلاً عمّا تثيره سينيور من أسئلة محرجة في مقالتها، يبدو الانتقال النفسي من جسدٍ فتيّ إلى جسدٍ كهلٍ قريباً من تغيير "القميص"، أو التعرّي من سؤال الهوية المحسوبة بشمع متّقد على وجه كعكة لذيذة، والتي نصرف كل أيامنا في تشكيلها، مهما كان الشعور. فهذا نافل ما دام القميص لا يستر ما تتركه السنون من ندوب في القلب نفسه.