النهار

ساكرو بوسكو: الحديقة الغامضة في قلب إيطاليا
نانسي فضّول
المصدر: النهار
ساكرو بوسكو: الحديقة الغامضة في قلب إيطاليا
A+   A-

في قلب إيطاليا، بعيداً عن ضجيج المدن وصخب الحياة اليومية، تقع حديقة ساكرو بوسكو، أو كما تُعرف بـ"البستان المقدس"، متربّعة في مدينة بومارزو ككنز دفين من الغموض والإثارة. إنها حديقة تعجّ بمخلوقات حجرية عملاقة ومنحوتات أسطورية تأسر النظر وتثير الفضول، وكأنها بوابة لعالم من الأسرار والعجائب. تأخذ الحديقة زائريها في رحلة عبر التاريخ المفعم بالألغاز والرموز، حيث يُعتقد أنها بُنيت على يد الدوق فرانشيسكو أورسيني لتكون أكثر من مجرد مساحة خضراء؛ إنها حكاية بصرية للحزن والفقد، وفي الوقت نفسه، للمرح والطرافة. هنا، بين الأشجار الداكنة والصخور الضخمة، يتحول التجوال إلى مغامرة، كأن الزائر يدخل عالماً ساحراً يجمع بين الفن والأدب والطبيعة، ليجد نفسه وسط متاهة من التماثيل والرموز الغامضة التي لم تُكشف جميع أسرارها حتى اليوم.

 


 

 

في ساكرو بوسكو كمّ هائل من منحوتات وحوش ضخمة، ومقابر مفتوحة، وتصوير درامي للمخلوقات الخارقة، مما يجعل زيارة هذه الحديقة أشبه بالدخول إلى منزل مسكون في عصر النهضة. يعود سبب ذلك إلى التماثيل المخيفة، إضافة إلى الغموض وراء قصة هذه الوحوش، إذ تظهر التماثيل المريبة عند مدخل الحديقة، كما تتنوع النقوش والتماثيل، مما يقدم تلميحات حول ما يجمع بين تلك الأشكال الغريبة. علاوة على ذلك، يمكن للزوار التجول في مبنى مائل، والهرب من فم عملاق، وفي حال تجاوزهم كلب سيربيروس ذي الرؤوس الثلاثة، يمكنهم النزول إلى "الجحيم".

 

 

 

 

تختلف حديقة ساكرو بوسكو عن الحدائق الأخرى لعصر النهضة، التي عادة ما يكون تصميمها منطقياً ومتماسكاً، بمعنى آخر تحتوي تلك الحدائق على عناصر مترابطة تجعلها تعبر عن موضوع معين بوضوح، سواء كان ذلك من خلال التنسيق في الزهور، أو التماثيل، أو التخطيط العام. يختلف هذا المشهد في حديقة ساكرو بوسكو، إذ إنها تقدم مسارات متاهة بلا اتجاه محدد، مما يخلق شعوراً بالقلق والمفاجأة في كل زاوية، فيصفها غارتون بغابة متجولة مليئة بالمفاجآت، والسبب وراء ذلك هو أن بعض المنحوتات تثير الرعب والقلق في ذاكرة الزائر.

 

 

 

 

وفي هذا السياق، يؤكد المؤرخ الفني جون غارتون أن الوثائق الواضحة التي تفسر سبب إنشاء هذه الحديقة ماتزال غير متوفّرة، وينطبق الأمر على المعلومات المتاحة حول الدوق فرانشيسكو أورسيني، الذي أمر ببنائها في منتصف القرن الخامس عشر. والغموض المحوري في هذه الحديقة هو عدم معرفة المعنى الدقيق وراء هذه التماثيل، وافتقارها إلى قصة خلفية موحّدة، إذ تتعدد النظريات حول سبب إنشاء الحديقة، ومنها أن أورسيني قد أراد تكريم زوجته الراحلة، ولربما قد تعكس الحديقة أيضاً قصة رمزية مستوحاة من الأدب الكلاسيكي. إلا أن السبب مايزال مبهماً حتى اليوم، مما يجعل ألغاز الحديقة قائمة من دون حل.

 

 

 

 

وقد يكون المفتاح لفهم لغز هذه الحديقة مرتبطاً بالتاريخ الشخصي لمصمّمها أورسيني، الذي عاش حياة معقدة، فبعد أن غادر للقتال في الحرب ضد فرنسا، أُسر وعاد ليجد أن زوجته قد توفيت، فبنى لها ضريحاً بعد موتها، إضافة إلى منحوتات أخرى في الحديقة، مما يجعل البعض يعتقد أن المشروع كان تعبيراً عن حزنه لفراقها. إلا أنه أشار في رسائله إلى أن الحديقة كانت مصدراً للترفيه بالنسبة إليه، فقد كُتِبَ على أحد النقوش عبارة "لتسلية القلب فحسب".

 

 

 

 

كان أورسيني مثقفاً، وقد استلهم من الأدب الكلاسيكي، إذ تشير بعض المنحوتات إلى نصوص كتبها شعراء مثل الشاعر أوفيد الإغريقي. جمعت تصاميم أورسيني بين الأدب والفن، فيُعتبر تجوال الزوار في الحديقة بمثابة إعادة تمثيل لرحلة الكاتب الأسطوري أورفيوس إلى العالم السفلي. بالإضافة إلى الحزن، تعكس بعض المنحوتات في ساكرو بوسكو جانباً من الطرافة والمرح، مثل منحوتة فم الجحيم التي "تبتلع" الزوار، فمن الممكن أنها رمزاً لشعور الحزن الذي يخالج الإنسان، لكنها كانت تُعتَبر أيضاً مكاناً للترفيه.

 

لا تُعتَبر قصة أورسيني المفتاح الوحيد لفهم الغموض الذي يحيط ساكرو بوسكو، بل يتعلّق ذلك أيضاً بالمنظر الطبيعي المحيط به، وذلك عبر الأشجار الداكنة والصخور الكبيرة التي تعزز الشعور بالغرابة. والملفت أن المنطقة كانت مأهولة منذ آلاف السنين، وترك الأتروسكيون (وهم شعب قديم سكن منطقة إترورية الإيطالية) وراءهم آثاراً تعود للعصور القديمة، مما يضيف بعداً آخر للغموض المحيط في هذه الحديقة، فقد كانت أشكال المنحوتات مستوحاة من البيئة الطبيعية المتماهية معها، إذ يعتقد البعض أن أورسيني كان يحرر الأشكال من الصخور كما فعل النحات مايكل أنجلو. وبعد وفاة أورسيني، سقطت الحديقة من ذاكرة التاريخ، حتى اكتُشِفَت مرة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية.

اليوم، ما زالت ساكرو بوسكو تستقطب الزوار بسحرها وغموضها. وعلى الرغم من عدم إيجاد إجابات قاطعة على ألغازها العميقة، تبقى تجربة استثنائية تعكس المشاعر الإنسانية والطبيعة المعقّدة والفريد من نوعها، وهذا ما ذكرته أحد النقوش، "لا يشبه إلا نفسه ولا شيء آخر"، مما يعبّر عن فرادتها وتميزها. وفي النهاية، تبقى هذه الحديقة معلماً مهمّاً في تاريخ العمارة والنقش، كما تُعتبر تجربة مثيرة للاهتمام في صميم إيطاليا.

اقرأ في النهار Premium