هذا نهر فيستولا البولندي، يتدفق من جبال كارباثيان في جنوب البلاد، ويمدّ يده إلى كراكوف، فتعيش هذه المدينة على ضفافه. وفي كل مرة أنزل في هذه المدينة، لا أجد صديقاً أصدق من هذا النهر، وكأنه إنسان عابر للتاريخ وحقبه، وللتراث وقيمه، وللجغرافيا وتفاصيلها، يجري دائرياً نحو الشمال، فيشقّ وارسو ليجد مثواه الأخير في مياه البلطيق.
أحببته من أول نظرة، وصار عروة أوثق بفضل "برونيا": سيدةٌ جميلة، قادتني الصدفة إليها على ضفة فيستولا يوماً. رمقتني أولاً نظرة استنكار حين أشعلت سيجارتي مدّعياً "الرومنسية" أمام النهر (هذا ما خطر في ذهني في تلك اللحظة)، ثم نهرتني بجملة بولندية ما فهمت منها حرفاً، لكنني أدركت أن فيها تجريحاً حاداً. لكن، سرعان ما بدلنا هذا التجريح بصداقة صارت عندي حباً من جانب واحد. وبرونيا هذه ثلاثينيةٌ، ويعني اسمها "الملاك الحارس"، تطوّعت مبتسمةً أن ترافقني ملاكاً في شوارع المدينة وأزقتها.
منذ ذلك اليوم، في كل مرة يُصادف "أن أتقصّد" شدّ الرحال إلى كراكوف بحجة العمل، تتفرّغ برونيا يومين أو ثلاثة لتكون مرشداً سياحياً وراوياً، تقص عليّ قصصاً جميلة، وتجتهد لتقنعني بأنها "ترو ستوريز".
كانت ساحة المدينة ساحتنا دائماً، نمتطي عربة بجواد حيناً، ودراجة "سيغواي" كهربائية أحياناً، من دون أي خجل. فالمهم أن نجوب أرجاء هذه المدينة ونتعرّف على أزقتها، ولو لم تمسك يدي بيدها، ولا حتى مرة واحدة. ونعود دائماً إلى شارع "زويسكا"، أو شارع الإسكافيين بالبولندية. ففيه ليلٌ لا ينام، وصخبٌ لا يخفت، وحانات لا تفرغ، وكؤوس لا تنضب، وزوايا لا تختفي منها القهقهات!
كانت حانة "باناليوكا" الأشهر. ينتظر الناس أمام بابها ريثما يجدون كرسياً فيها فارغاً، ويتسابقون إليه ضاحكين. فمن سبق.. شمّ الحبق! وكانت أجمل ما رأيت من حانات، مصممة على طراز يعود إلى عشرينيات القرن الماضي؛ وكانت أسهل تعاملاً من أي حانة أخرى... فالسعر فيها ثابت: كل طبق بـ 2 يورو، وكل شراب بيورو واحد. هنا، ذوّقتني برونيا المرّ الحلو: فودكا الكرز والعسل والليمون في كأس "بَطينة"، وقالت لي: "بهذه الكأس، أعمّدك بولندياً". أكلنا فطائر "ويسكلي" (Wsciekly) وفيها مزيج من الفودكا وعصير التوت وصلصة الفلفل الحار، وزلابية، وسجقاً بقرياً محلياً، والأرز باللحم.
ومثل هذه الحانة... "بيانا فيشنا" في شارع أوليسا فلوريانسكا بالحي القديم في كراكوف: تصميمه الداخلي رائع ومريح، وفيه جدار فني رائع و"بار" قديم. هذا المكان متخصص في تقديم "مشروب الكرز الكحولي" الذي قد لا أجده في أي مكان آخر.
كنت أنزل في فندق فخم، أطمئن إلى نجومه الخمس في كل مرة. صار مثابتي الدائمة. لكن برونيا أخذتني من يدي إلى فندق "ستاري" بوسط الحي القديم في كراكوف، ووشوشتني: "هنا، تجد روح بولندا التي تلمّ الشرق والغرب، وتدمج أوروبا العصرية بالتقاليد القديمة". ما كنت أظن أن غايتها من اصطحابي إلى ذلك الفندق "ثقافية"، لكنني رضيت بما قُسم لي، ما دامت برونيا تتهادى أمامي.
في مقهى قريب من ذلك الفندق، ضيّفتني "إسبريسو" إيطالياً مراً، وتابعت مهمتها الثقافية: "إننا نعاني يا عزيزي أزمة هوية. فقد أنشأت الحقبة الشيوعية في مجتمعنا مجتمعاً عميق الجذور، وبعد سقوط جدار برلين وتفرّق عشاق السوفيات، اخترنا أن نعود جزءاً من الغرب الذي ابتعدنا عنه ردحاً من الزمان، فوقعنا في غربة نفسية. لا نستطيع البقاء حيث نحن الآن، ولا العودة إلى الأمس، فكيف نمضي إلى مستقبلنا؟". من هذا الشرح كله، توقف ذهني عند "يا عزيزي"!
في زاوية قريبة من هذا الفندق، اخترت الجلوس يومياً في "لودوا هوتا"، وهذا مكان "حميم" يقدم مثلجات يحضرها بمكونات طبيعية بلا ألوان صناعية ولا مواد حافظة. دعوت برونيا إليه، وأقنعتها بتجريب نكهة raspberry meringue، وطبق Walnut with maple syrup. عرفت بعدها أن هذا الطبق هو الأكثر طلباً هنا.
حدثت برونيا كثيراً عن ذائقتنا نحن العرب، وعن "العين تعشق قبل اللسان أحياناً!"، فعرفت أن لي مذاقاً "معقّداً" كما وصفته، وقالت لي: "ستجد ضالتك في مطعم ’تزي ريبكي‘". وهذا مطعمٌ ليس شعبياً، زيّن جداره الكبير بنجمة "ميشلان" العالمية. قالت لي برونيا: "أتبحث عن الـ "Fusion"؟ فها هو هنا!". تصميمه استثنائي من عصر النهضة، تجافيه تلك القناطر فوق نوافذه القوطية. عرّفتني صديقتي بكريستوف زوريك، الطاهي الأول في المطعم. كان يشزرني وكأنني سرقت منه حبيبته... وأنا يا حسرتي!! المهم، نصحني متكلفاً ابتسامة صفراء، فنزلتُ عند نصيحته وتناولت طبق اللحم مطهو بالتفاح والأعشاب في صلصة يدخل فيها النبيذ الأبيض، وتحلّيت بزلابية الريكوتا مع اليقطين وبوريه البرتقال مع المثلجات بنكهة الفانيليا. ما زال طعم هذه الأطباق يحفر عميقاً في ذاكرتي!
على بعد دقيقة فقط سيراً من متحف "أوسكار شيندلر"، كنت أتناول إفطاري يومياً تقريباً في مطعم "هانديليك". هناك، كانت برونيا تُعامل معاملة النجمات: تطلب فتُطاع فوراً. وقبل يوم من مغادرتي عرفت أن مالكه "زوجها السابق"!
ومن لا يعرف موقع المطعم قد لا يتنبّه إلى وجوده، فهو مخبّأ في مصنع قديم، نوافذه كبيرة وسقفه عالٍ. أحببت فيه مطبخه المفتوح، حيث تشاهد الطاهي ومساعديه يحضرون كل طبق، كما عشقت فيه الخبز. قالت لي برونيا في أول أفطار لنا هنا: "تناوله مع البيض المخفوق بجبنة أوسيبِك البولندية، فلن تندم".
أحياناً، في غياب برونيا وعينيها، كنت أشغل نفسي ببعض الثقافة، فأنطلق من دون قرار إلى قلعة "واويل" المدرجة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي. وليس بعيداً منها، كانت كاتدرائية "سانت ماريا بازيليكا" محطتي الثانية. قوطية تصميمها الداخلي مذهل، خصوصاً مذبحها الخشبي الذي نحته ويت ستوس، وجدارياتها الضخمة التي رسمها جان ماتيكو. في عام 1978، أعلنتها اليونسكو موقعاً تراثياً عالمياً.
كثيرة هي متاحف كراكوف، لكن متحف "أوسكار شيندلر" (Oskar Schindler's Factory) يجذبني دائماً. فهذا مخصصٌ لحقبة الاحتلال النازي قبيل الحرب العالمية الثانية وخلالها. فيه، تعرفت إلى قصة أوسكار شيندلر الذي أنقذ عدداً كبيراً من يهود بولندا من مجازر النازيين، وصُوِّرت فيلماً سينمائياً أخرجه ستيفن سبيلبرغ، أثار في عام 1933 جدلاً ثقافياً - سياسياً حاداً. تستغرق الجولة "السريعة" في هذا المتحف نحو ساعتين، وهو مبني بطريقة فريدة. رتّبت كل غرفة من غرفه بدقة لتشبه مكاناً محدداً: شارع ودكان لتصفيف الشعر ومعسكر ومحطة سكة حديد وغيرها (هناك 45 غرفة). قالت لي برونيا: "هذا المتحف ليس مملاً! إنه درس تاريخ لا تتابعه في الجامعة، إنما تعيش تفاصيله بنفسك".
وعدتني برونيا أن تزورني في بيروت. أنتظرها بفارغ الصبر!