بعد بحث مستفيض، توصل فريق من علماء الآثار إلى تحقيق أول وصف شامل للمستوطنات البشرية بشمال غرب المملكة العربية السعودية خلال فترة العصر الحجري الحديث.
فقد أبرزت دراسة تشرف عليها الهيئة الملكية لمحافظة العلا، ساهمت فيها عالمة الآثار جين ماكمان من جامعة سيدني، أدلة تشير إلى أن سكان هذه المنطقة في الألفيتين السادسة والخامسة قبل الميلاد "كانوا أكثر استقراراً وتطوراً مما كان يُعتقد سابقاً"، إذ كانوا يرعون الماشية، ويمتهنون صوغ المجوهرات، ويمارسون أعمال التجارة مستفيدين من موقعهم للتبادل التجاري مع الجوار، مثل شرق الأردن والمناطق المطلّة على البحر الأحمر.
شارك في إعداد هذه الدراسة عدد من الخبراء، بينهم فريق علمي من جامعة الملك سعود، ومن أبناء وبنات السعودية في العلا ومنهم يوسف البلوي، حيث قدّم رؤى إثنوغرافية وثقافية لسكان المنطقة، إضافة إلى طلبة من جامعة حائل في إجراء هذه الدراسة. ونُشرت نتائج الدراسة في مجلة "ليفانت" العلمية، وفيها أحدث الاستنتاجات والملاحظات حول التحقيقات الأثرية للمنشآت المعروفة باسم الدوائر الحجرية المنصوبة، وهذه نوع فريد من المساكن تتكون من ألواح حجرية منصوبة بشكل عمودي بقطر يتراوح بين 4 و8 أمتار.
صيد وطقوس
شملت الدراسة 431 دائرة من الدوائر الحجرية المنصوبة في مواقع مختلفة في حرّة عويرض في العلا، مع إجراء مسح ميداني لـ52 منها، وتنقيب 11 أخرى. وتشير الدراسة إلى أن الألواح الحجرية المنصوبة على هيئة صفين في محيط الدائرة الخارجي تبدو كأنها استُخدمت كأساسات لأعمدة خشبية (ربما من نوع الأكاسيا)، استُخدمت لدعم سقف المسكن، ومعها لوح في مركز الدائرة لدعم العمود الخشبي الرئيسي. وتشير الأدوات وبقايا الحيوانات التي وُجدت في الموقع إلى أن الأسقف ربما صُنعت من جلود الحيوانات.
تقول ماكمان إن هذا البحث يختبر الفرضيات حول طرائق عيش سكان شمال غرب الجزيرة العربية الأوائل، مضيفة: "هؤلاء السكان لم يكونوا مجرد رعاة يعيشون حياة بسيطة، بل كانت لديهم هندسة معمارية مميزة ومساكن وحيوانات مستأنسة، وحليّ وزينة وأدوات متنوعة". واستناداً إلى عدد الدوائر الحجرية وحجمها، محتمل أن أعدادهم كانت هائلة وأكثر بكثير مما كان يُعتقد سابقاً.
توصّل إشراف الهيئة الملكية على البرنامج الأثري، الأكبر في العالم، إلى فهم سكان المنطقة في العصر الحجري الحديث، فيما أظهرت الدراسات السابقة طرائق صيدهم وطقوسهم وجوانب من حياتهم اليومية، بحسب ما تقول ريبيكا فوت، مديرة الأبحاث الأثرية والتراث الثقافي في الهيئة الملكية لمحافظة العلا، مؤكّدةً التزام الهيئة البحث المستمر "لإبراز المشهد الثقافي الغني الذي تتميز به العلا وعملها على إنشاء مركز عالمي للأبحاث الأثرية".
ترابط جغرافي
يشير تحليل فريق العلماء لبقايا الحيوانات التي وُجدت في موقع الدوائر الحجرية المنصوبة في حرّة عويرض إلى اقتصاد مزدهر، يعتمد بشكل كلّي على أنواع الحيوانات المستأنسة مثل الماعز والأغنام، وعلى الحيوانات البرية مثل الغزلان والطيور، حيث وفّر الاعتماد الكبير على تربية الحيوانات مرونة للسكان وقدرة على التكيّف مع التغيّرات البيئية والاستفادة من الموارد المتاحة. وتُظهر الأدوات المكتشفة في الموقع اهتمامهم بتربية الحيوانات، حيث يُعتقد أن السكان استخدموها في جزّ الصوف وذبح الأغنام.
وكشفت الدراسة أيضاً أن أنواع رؤوس السهام التي تمّ العثور عليها تتطابق بشكل كبير مع تلك المستخدمة في جنوب وشرق الأردن، ما يعدّ دليلاً واضحاً على التفاعل والترابط بين سكان المنطقتين.
وتمّ اكتشاف بعض القطع الصغيرة التي عُثر عليها في المواقع الأثرية، وهي أصداف حلزونية وصدفية مثقوبة يرجح استخدامها قطعاً خرزية للزينة، وتبين أن جنس الأصداف يتطابق مع تلك الموجودة في البحر الأحمر على بعد 120 كيلومتراً إلى الغرب، ما يشير إلى استيرادها من الساحل إلى الداخل في العصر الحجري الحديث. وتضمنت الأدوات أيضاً مصاغاً وأساور مصنوعة بالحجر الرملي والحجر الجيري.
كما عثر الفريق على قطعة طباشير حمراء من الحجر الرملي يُعتقد أنها كانت تُستخدم للرسم، وكتب الباحثون في دراستهم: "اتضحت لنا من خلال هذه الدراسة، الطبيعة المتصلة ولكن المنفصلة للعصر الحجري الحديث في العلا بشكل كبير".