نعمتان شدّتاني إلى روما في أوائل تموز (يوليو) الجاري: شنغن العزيزة... والاحتباس الحراري البديع!
كنت في مرسيليا الفرنسية، قريباً من بلاد الجميلة جورجيا ميلوني... مرمى حجر كما يقولون! حدثتني نفسي أن أركب البرّ ما دامت هذه التأشيرة المجيدة تفتح لي أبواب أوروبا. سألتني ماريان، موظفة قطع التذاكر في محطة سان شارل للحافلات بمرسيليا: "لم لا تذهب بحراً، أتخاف ركوب الموج؟". حين استقر بي المقام في الحافلة، وجدتني بين شبان وشابات في أوائل عشرينياتهم، صمٌّ بكمٌ كلّهم... "كان عليّ أن أركب الموج يا ماريان". لكنني عدت عن ندمي سريعاً، فهذه "كوزيت" مرشدة هذا الجمع الصامت، مزيج متوسطي بين صوفيا لورين في ثلاثينياتها ومونيكا بيلوتشي في أواخر عشرينياتها... "ماي تايب يعني!" كما نرطنها نحن اللبنانيين.
دامت رحلتنا البرية ثماني ساعات. لم أفهم أولاً معنى أن يرميني القدر في جمع، تحولت فيه أنا الناطق إلى الأصم والأبكم الوحيد. فما توقفوا عن الحديث، ولا عن الصراخ، ولا الضحك، بلغة الإشارة حيناً وبتعابير الوجه وحركة الشفتين أحياناً، وأنا تائه البصر لا حول لي ولا قوة.
كانت روما حارة: فدرجة الحرارة هنا 37 درجة مئوية. هذه الحرارة عادية عندنا، لكنها هنا قيظ لا يطاق بسبب "نعمة" الاحتباس الحراري. فترى الطليان – رجالَ نساء - في الشوارع قد تخلّوا عن معظم ثيابهم، يرشون أبدانهم بالماء... أو يقفون في وجه "مروحة" منصوبة بباب دكان أو متجر. نعمة وألف نعمة والله!
أين ستنزلون يا كوزيت؟ سؤال حقّ يُراد به "الباطل كله". أخبرتني عن فندق "سيليسيا": "ليست هذه أول مرّة ننزل فيه، فمديره صار يعرفنا. هذا فندق مريح، فيه غرف تتسع لنوم خمسة نزلاء، وهذا يلائمنا. فعددنا كبير. كما لا ندفع فيه بدل الإقامة، إذ تتحمّلها الإدارة ضمن مسؤوليتها الاجتماعية. يكفي أن تبرز بطاقة تثبت انتسابك لأي من مؤسسات الرعاية الاجتماعية في الاتحاد الأوروبي. فما رأيك؟" لكني لست منتسباً... فهل أنتسب "إليكِ"؟
وفندق "سيليسيا" هذا ليس فخماً، لكن فيه سمة "المنزلية"، تشعر بها لحظة دخول فنائه الواسع. غُرفه مؤثثة بأناقة البساطة، وحديقته لطيفة ليلاً تشبه كثيراً حديقة منزل في قرية لبنانية لا تبتعد كثيراً عن العاصمة. الجميل أنه قائم في محيط غير مكتظ، تصل منه إلى الكولوسيوم في أقل من ربع ساعة بالسيارة، وإلى كاتدرائية سانت جون في ثماني دقائق فقط. بعد تقاسم الغرف، ولأقتنص فرصة "إقامة مجانية"، شاركني الغرفة شابان، علّماني ليلاً ما قلّ ودلّ من لغة الإشارة: "هل تقبلين دعوتي إلى فنجان قهوة أو كأس نبيذ أو ..."، وساهما في أن أنسج مع الجماعة كلها صداقة علّمتني معنى ألّا يعيقك أمر في هذه الدنيا.
تسوّقنا كثيراً، فهؤلاء الصمّ والبكم يحسنون "الفصال" أكثر مما أحسنه أضعافاً مضاعفة، وأنا أتقن انتهاز الفرص أكثر مما يدركون. اتفقنا أن أومئ إلى أي شيء أريد شراءه، فيشترونه لي بأقل من نصف ثمنه: يحصلون على حسم "اجتماعي" أولاً وقدره 50 في المئة، ثم يستمرون في المحاولة إلى أن يرضى البائع بأقل كثيراً مما يريد، شرط ألّا يخرجوا إلّا والبائع يودعهم إلى الباب مسروراً. لو أعرف كم سيكون مسروراً حين يجلس مساءً إلى حصالته فيحسب خسائره!
أين تأكلون؟ سألت العزيزة كوزيت. في أي مكان. فهؤلاء شباب يريدون حياة الحرية، وأنا تجاوزت شبابي وأريد الرفاهية. فكانت الصفقة: أشاركهم فطائر البيتزا الإيطالية التقليدية على رصيفٍ وسط روما، فأدعوهم على نفقتي إلى مطعم كبير.
في Alice Pizza بشارع سان فرانسيسكو آريبا، ربما كانت أطيب شريحة بيتزا أتذوقها في حياتي. لم نجلس في صالة المطعم، بل تناولنا البيتزا وقوفاً على ناصية الشارع. كانت معجونة باليد، ومدهونة بمعجون الطماطم المحضّر منزلياً، وفوقه طبقة سخية من أجبان مختلفة... وبعض التوابل. قالت لي كوزيت: "هذه التوابل هي التفاصيل التي تكمن فيها النكهة". أنا لا أعرف إلّا الشيطان يا كوزيت، فهو الوحيد الذي يكمن في التفاصيل، ولم يكن ثالثنا يا خانم!
في جانبي من التسوية، اصطحبت الجمع كله إلى مطعم L’Arcangelo، وأقنعتهم بتناول زلابية البطاطس بالنيوكي مع الطماطم المجففة، وطبق التالياتيلي مع فطر البورسيني المجفف، ورافيولي البصل مع الأعشاب والزبدة بالصلصة الحلوة والحامضة، ولحم الضأن المحشو بالجبن مع صلصة البيض. ساد هرجٌ ومرجٌ في تلك الأمسية، إذ دبّت الحياة في أرجاء المطعم، فخرج علينا الشيف فولفيو بييرانجيليني ضاحكاً، وفاجأنا ببعض الحركات بلغة الإشارة، فهرعوا جميعاً يلتقطون معه الـ"سيلفي". المهمّ في الأمر أننا خرجنا ولم أدفع يورو واحداً!
عزمت على تكرار هذه المغامرة المجانية، وتركت للجميلة كوزيت حرّية الاختيار، فانتخبت مطعم La Matricianella. استقبلنا جياكومو لو بيانكو وشقيقته غراتسيا في مطعمهما هذا وجوماً أولاً، ثم انفرجت أساريرهما حين شعرا بِطاقة إيجابية تدبّ في أرجاء المكان: تقاطر الناس إلى المطعم من دون مواعيد، على غير عادة. عرّفاني بالطبّاخين جيوفاني فابروتي ولورينزو فانونشي وستيفانو تيمي، فنصحنا كل منهم بأطباقه المفضّلة: الأرضي شوكي المسلوقة، وطبق البكالا، وطبق التاغليوليني مع الكمأ، وتوناريلّي مع صلصة أرابياتا الحارة. المفضّل عندي كان لحم الضأن المشوي الملقى على شرائح الخبز السكري. لسوء حظي، تجاوزت الفاتورة 680 يورو، قدّمتها لي النادلة مبتسمة حين رأت امتعاضي، فدفعت بالتي هي أحسن.
لحسن حظي، اشتد الحرّ. فهل تسبحون؟ طبعاً. فكيف أرفض وأنا في الأصل أتٍ إلى روما مشدوداً بنعمة القيظ؟ كان شاطئ فيوميتشينو البعيد 30 كيلومتراً من روما مكاناً رملياً جميلاً، لا يختلف كثيراً عن رمال شواطئ بيروت أو اللاذقية أو الإسكندرية، لكنه أشدّ بريقاً. ربما لأن الناس هنا لا يرمون في رمالهم ما يسيء إليه. وقريباً من الشاطئ، قبالة المنارة القديمة ميناء سياحي إيطالي قديم، تراصفت أمام أرصفته يخوت صغيرة وكبيرة، وقوارب للنزهة والصيد.
في اليومين الأخيرين، قرّرت كوزيت وجماعتها المشي في أنحاء روما، أو استخدام الدراجات الهوائية، من دون سيارات، فبدأنا من ساحة بوبولّو، حيث نصبت بلدية روما ثمانية تماثيل برونزية صنعها الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو، وذهبنا في كل اتجاه. لكن، كان الكولوسيوم مربط خيلنا دائماً، وذلك الجدار الغريب المبني من سماعات الأذنين، تركها السيّاح هنا تذكاراً من قبيل "فلان مرّ من هنا". لا أعرف ما صلة سماعة الأذن بأن يترك أحدهم أثراً في روما.
عادت كوزيت وجماعتها المحببة إلى مارسيليا، وقرّرت أنا عصر هذه الـ "شنغن" حتى آخر صفحة في جواز سفري. ودّعتها في محطة الحافلات بروما، وما وسعني أن أستخدم ما تعلّمته من إيماءات لأقول لها شيئاً. أما أصدقائي الجدد، فتعاهدنا أن نتراسل، حتى أحدهم كتب لي في ورقة صغيرة: "تعلّم لغة بريل، فربما تصادف في رحلتك المقبلة من لا يبصرون".