التذكير بالصداقة بين الدول العربية والهند يطول، وفي هذا الملف الكثير من النقاط المهمة لا يمكن مقاربتها في هذه العجالة. تكفي الإشارة إلى أن هذه العلاقات المميزة بين الجانبين بدأت منذ ما قبل الإسلام، لا سيما مع الجزيرة العربية، وتعاون الجانبين كان يؤمن استقراراً لمنطقة غرب المحيط الهندي وبحر العرب وللسواحل الشرقية لأفريقيا، ولم يتمكن الاستعمار البريطاني الذي كان له نفوذ كبير عند الجهتين – خصوصاً منذ مطلع القرن العشرين – من تسميم هذه العلاقة، كما أن الإشارة إلى العمل الجبار الذي قامت به الهند بقيادة جواهر لال نهرو والجانب العربي، لا سيما الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، في تأسيس منظمة دول عدم الانحياز في عام 1955 وهي ما زالت قائمة حتى اليوم؛ تعطي فكرة واضحة عن أهمية هذا التعاون البنَّاء في منطقة رئيسية من العالم.
وقد استمرَّت هذه العلاقات بالتطور بين الهند ومعظم الدول العربية، ووصل التبادل التجاري والثقافي بين الجهتين إلى حدود متقدمة جداً، كما أن الاستثمارات العربية في الهند توسَّعت في مختلف المجالات الصناعية والسياسية والزراعية، ويعمل في الدول العربية حالياً ما يقارب 10 ملايين من الفنيين والعمال الهنود، لا سيما في دول الخليج العربي، ويتم تحويل العائدات المالية المهمة لهؤلاء إلى بلدهم من دون أي شروط، ولا يواجهون أي عوائق. كما أن بناء "قصر تاج محل" كأهم معلم معماري وسياحي هندي على الطراز العربي والإسلامي؛ يؤكد هذه الصِلاة، وله رمزيته الواضحة.
والتعاون على المستوى الدولي بين الهند والدول العربية على تنوعها؛ كان كبيراً وشاملاً، وأرست جامعة الدول العربية اتفاقيات متعددة مع حكومات نيودلهي المتعاقبة في أكثر من مجال. وكانت الهند الدولة غير العربية الأولى التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني عندما اتخذت قمة الرباط العربية هذا القرار عام 1974، ومنحت المنظمة تمثيلاً دبلوماسياً كاملاً في نيودلهي عام 1975، وهي وقفت على الدوام إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة بإقامة دولته على أرضه، وعاصمتها القدس الشرقية.
تطرح الأوساط المراقبة تساؤلات عديدة عن موقف الهند الحالي، وهل حصل تغيير جذري على هذا الموقف، خصوصاً تجاه القضية الفلسطينية وتجاه ما يجري من تطورات على الساحتين الدولية والعربية؟
مما لا شك فيه أن بعض المتغيرات أُضيفت إلى استراتيجية الهند منذ عام 2014، خصوصاً تجاه الصراع القائم في المنطقة، من دون أن يعني ذلك اعتماد مقاربات سلبية هندية جديدة على الإطلاق، ونيودلهي حريصة على استمرار علاقاتها مع الدول العربية، لا سيما القريبة منها، ورئيس الوزراء ناريندار مودي قام بأكثر من زيارة في المدة الأخيرة للدول العربية، ومنها للإمارات العربية المتحدة - حيث دشَّن في 14 شباط (فبراير) 2024 معبداً هندوسياً كبيراً، قدمت حكومة الإمارات الأرض لبنائه مجاناً - ولمصر وللهند علاقات مميزة مع المملكة العربية السعودية، وهي شريك تجاري أساسي لها كونها تستورد أكثر من 80% من حاجاتها النفطية من المملكة. وما حصل في 9/9/2023 في نيودلهي على هامش قمة العشرين من توقيع لاتفاق إنشاء الخط التجاري من موانئ الهند عبر موانئ الإمارات والأراضي السعودية والأردنية وصولاً إلى أوروبا؛ كان تطوراً في غاية الأهمية لناحية تأكيد مكانة العلاقات بين الهند وبعض الدول العربية.
أما التغييرات الواضحة في بعض مقاربات الهند الجديدة؛ فهي في الموقف الذي اتخذته نيودلهي في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي انعقد في 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، والذي خُصص للتصويت على مشروع القرار الذي قدمته المجموعة العربية، وهو يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، وقد امتنعت الهند عن التصويت لمصلحة القرار، ولكنها عادت وصوتت إلى جانب قرار مُشابه في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، كما أن رئيس الوزراء الهندي عاد واتصل برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس متضامناً مع الضحايا الفلسطينيين، بعدما كان قد اتصل برئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وأدان العملية التي حصلت في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 في غلاف غزة، تماماً كما فعل قادة الدول التي تأثرت بالدعاية الإسرائيلية أو بالضغوط الأميركية، ما جعل المراقبين يربطون الموقف الهندي بالحالة الغربية.
في المقابل، فإن التحركات الهندية الأخيرة المرافقة للتوتر القائم في البحر الأحمر، وإرسال نيودلهي 12 سفينة حربية إلى المنطقة؛ لم تُفهم خلفيات مهمتها من الجهات المعنية، خصوصاً لأن الهند امتنعت عن الدخول في الحلف الذي أنشأته الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا مع بعض الدول الأخرى وهدفه المُعلن حماية المرور التجاري عبر البحر. كذلك لم تُفهم مغازي المناورات العسكرية البحرية التي تجريها قوات هندية وقوات أوروبية على بعض السواحل الشرقية الأفريقية. وقد وصلت بعض التحليلات إلى اعتبار الأمر كأنه تكليف دولي جديد للهند للقيام بدور أمني في المحيط الهندي، بما يشكل إزعاجاً واضحاً للسياسة الصينية.
ومن الواضح أن بعض التغيير حصل في السياسة الهندية على المستوى الداخلي، وعلى المستوى الخارجي، ومنها التحلُّل من بعض المقاربات التي صبغت صورة الهند منذ استقلالها في عام 1947، خصوصاً كونها اشتهرت بأنها بلد علماني كبير وهو اليوم أكبر دولة من حيث عدد السكان، وهي تعتمد النظام المدني، بينما نشاط حزب "بهاراتيا جاناتا" القومي الحاكم اليوم يوحي باعتماد مقاربات مختلفة، فيها تراجع واضح عن سياسة التسامح الديني، وقد اشتكى المسلمون كما المسيحيون والسيخ من مضايقات تقوم بها السلطات الهندية في بعض الولايات، كما من المحاولات المتجددة لاعتبار الهندوسية هي الديانة الرسمية للدولة.
نمو الاقتصاد الهندي، وتنامي عدد سكانها أيضاً، يؤكدان أهمية استمرار الصداقة مع الجانب العربي ولا يُخففان من شأنها على الإطلاق. والمغامرات غير المحسوبة من أي جهة أتت؛ ستكون خسارة كبيرة لن تعوَّض، للهند أولاً، وللجانب العربي بالدرجة الثانية.