النهار

لم يكن الفساد عراقياً بل صار كذلك
فاروق يوسف
المصدر: النهار العربي
ليس صحيحا القول إن العراقيين فاسدون بالسليقة لذلك لم تلق عمليات الفساد التي بدأت بها الأحزاب التقليدية والناشئة مسيرتها في الحكم أي مقاومة شعبية.
لم يكن الفساد عراقياً بل صار كذلك
محاربة الفساد مطلب شعبي عراقي
A+   A-
ما كان في إمكان سلطة الاحتلال الأميركي أن تعيد إنتاج الطبقة السياسية التي ساندتها وقدمت معها من الخارج على أساس ديموقراطي في زمن قياسي، يمتد ما بين التاسع من نيسان (أبريل) 2003، وهو اليوم الذي أُعلن فيه رسمياً سقوط نظام الرئيس صدام حسين، و12 تموز (يوليو) من السنة نفسها حين أُعلن عن قيام مجلس الحكم. كانت سلطة الاحتلال في حاجة إلى واجهة محلية يضفي وجودها طابعاً وطنياً على القرارات التي تتخذها. غير أن تأليف ذلك المجلس، وإن بدا على مستوى اختيار أعضائه ممثلاً لتعددية حزبية، غير أنه في جوهره كان محاولة مسبقة لتكوين صورة عن النظام الطائفي في المستقبل. وفي الحالين لم تكن الديموقراطية هي المبدأ الذي اعتمد عليه الخيار الأميركي. أولاً لأنه لا وجود لحياة سياسية في العراق، وثانياً لأن المعارضين الذين باركوا الغزو لأميركي لم تكن التربية الديموقراطية حاضرة في منطلقاتهم الحزبية، وثالثاً لأن الديموقراطية لم تكن مطلباً عراقياً.
 
لقد تم دس الديموقراطية عنوة وبطريقة مجانية بين الأهداف التي وضعتها الإدارة الأميركية لتفسير حملتها العسكرية على العراق استعداداً لافتضاح كذبة أسلحة الدمار الشامل التي لم يكن العراق يملك شيئاً منها. حاولت سلطة الاحتلال أن تمرر كذبة الديموقراطية ولم تعترف بأنها لم تجد الغطاء المحلي الكفيل بإنجاح المشروع والوصول به إلى أدنى مستوياته. كان ذلك واضحاً في الانتخابات التي أجريت عام 2005 والتي لم تنتج منها إلا حكومة كانت عبارة عن صورة مبرمجة عن مجلس الحكم. 

قاعدة الإفلات من العقاب
ليس صحيحاً القول إن العراقيين فاسدون بالسليقة، لذلك لم تلق عمليات الفساد التي بدأت بها الأحزاب التقليدية والناشئة مسيرتها في الحكم أي مقاومة شعبية. لقد مهد المحتل الأميركي ممثلاً بسلطته المدنية الطريق لتلك العمليات، أملاً في إقامة منظومة سرية تكون نواة للدولة العميقة، وهو ما تحقق له من خلال التسعة مليارات دولار، وهي أموال عراقية مجمدة تم ضخها في السوق بحجة إعادة الإعمار.
 
وإذا ما كانت عمليات نهب المتاحف الآثارية والفنية ودور المخطوطات القديمة واضحة للعيان، فإن الأموال التي تم تسريبها إلى المقاولين ومنظمات المجتمع المدني وأصحاب المشاريع الوهمية ومروجي الدعاية وجماعات البحث العلمي، ظلت طي الكتمان إلى أن نشرت سلطة الاحتلال جزءاً من قوائم المرتشين الذين تعرف وهم يعرفون أنهم لن يتعرضوا للعقاب. أولاً لأنهم يقيمون خارج العراق باعتبارهم رعايا لدول أخرى، وثانياً لأن سلطة الاحتلال كانت قد عطلت العمل بالقوانين التي يمكن أن تدينهم، وثالثاً وهو الأهم لأنه لا وجود للسلطة الوطنية التي في إمكانها أن تلاحقهم. لذلك لم تحتج سلطة الاحتلال إلى أن تضمن الدستور الجديد الذي كتبته فقرة تنص على حماية الفاسدين وتطبيع الفساد بعدما اطمأنت إلى أن أحداً لم يعترض على حذف الفقرة التي تنص على عروبة العراق. ورغم المبالغة في الترويج الدعائي للديموقراطية، فإن مبدأ الشفافية كان غائباً عن الطريقة التي كانت تتصرف سلطة الاحتلال بموجبها بالأموال العراقية، كما أن تلك السلطة رسخت أسلوب الإفلات من العقاب قاعدة للنظام الطائفي في تعامله مع مكوناته الحزبية. 

السجن للصغر والحماية للكبار
قال نوري المالكي ذات مرة في لقاء تلفزيوني إن لديه الكثير من ملفات الفساد التي من شأن نشرها أن يُطيح رؤوس زعماء الأحزاب المشاركة في العملية السياسية. أما لماذا لم ينشرها وقد كان واجبه باعتباره رئيساً للحكومة يحتم عليه تقديمها إلى القضاء، فإن ذلك يعود إلى أن المشبوهين يملكون من جهتهم ملفات تدينه بالفساد هو الآخر. كان تبادل المصالح هو أساس عملية الصلح الداخلي التي أرسى عليها النظام الطائفي قواعده، وهو ما كانت هيئات النزاهة في مختلف أطوارها حريصة على التمسك به، فلا تحيل إلى القضاء إلا الفاسدين الصغار ممَن تتم التضحية بهم بطريقة استعراضية، أما إذا حدث خطأ ما لأسباب كيدية فقد كان تلافيه يحدث بطريقة يسخر فيها القضاء من نفسه، كما حدث مع وزير التجارة الأسبق عبد الفلاح السوداني الذي اتُّهم بهدر ثلاثة مليارات دولار، وحين ألقت شرطة الإنتربول القبض عليه في بيروت وسلمته إلى بغداد تمت تبرئته في غضون ربع ساعة. وفي ذلك المجال يمكن التذكير بوزير الكهرباء أيهم السامرائي الذي هربته القوات الأميركية من سجنه، وكذلك وزير الدفاع فلاح حسن النقيب الذي اتُّهم باستيراد خردة على أساس كونها أسلحة حديثة ولم يتعرض للعقاب بعدما فُقد أثره. ومَن أُتيحت له الفرصة لمتابعة العملية السياسية في العراق لا بد من أن يلاحظ أن هناك آلاف الأسماء التي لم تعد تُذكر في الإعلام العراقي واختفى أصحابها رغم أنهم كانوا يُعتبرون سياسيين من العيار الثقيل. 

ما من فساد أقل
حين اهتزت وسائل التواصل الاجتماعي أخيراً بسبب فضائح المؤسستين العسكرية والأمنية، لم تتعامل الحكومة العراقية مع الحدث بطريقة يشعر الآخرون من خلالها بأنها قد صُدمت رغم أن تلك الفضائح لم تكن مسبوقة في التاريخ السياسي العراقي المعاصر. فالأمر لم يقف عند حدود سرقة أموال الدولة أو هدرها بل تعداها إلى إدارة شبكات بغاء، الغرض منها ابتزاز ضحاياها من رجال أعمال وزعماء أحزاب ومسؤولين كبار. اللافت في المسألة أن المتهمين لم يجر اعتقالهم ولم تتم إحالتهم على القضاء، بل اكتفت الحكومة بنقلهم من مواقعهم القيادية من غير المس برتبهم العسكرية. وإذا كانت الحكومة لم تجد سبباً يضطرها لتوضيح موقفها، فلأنها لم تجد حرجاً في أن تقتدي بمواقف الحكومات التي سبقتها في غض الطرف عن جرائم فساد أدت إلى الإضرار بسمعة النظام السياسي حين وضعت العراق في مقدمة الدول الأكثر فساداً في العالم. ما يدعو إلى الإحباط أن العراقيين كلما حلموا بفساد أقل تلقوا ضربة توقظهم على حقيقة أن لا خروج من مستنقع الفساد.       

 

اقرأ في النهار Premium