ليس الشرق الأوسط وحده الذي يتحول إلى ثقب أسود نتيجة تداعي النظام الدولي. بل ثمة في القوقاز الكثير من البارود اليابس ينتظر الانفجار.
يحوي القوقاز خلائط أعراق وطوائف بقيت متصارعة لقرون. ولطالما استنصرت مكوّناتها بهذا الجار القوي أو ذاك ضد جيرانها الأضعف. ذلك أن ثلاث قوى إقليمية كبيرة تحيط بالقوقاز هي تركيا وإيران روسيا. ولكل منها ركائزه، ومطامحه وتاريخه في غزو الإقليم.
لكن، مع بدايات القرن العشرين، تصاعدت أهمية القوقاز كمعبر بري رئيسي لخيرات تقدر بمئات المليارات من الدولارات، يربط وسط آسيا إلى المتوسط وأوروبا. وسواء بالنسبة إلى طريق الحرير الصيني، أم طريق التوابل الهندي، تتقاطع الطرق في القوقاز، لتستيقظ من جديد مجمل الصراعات والعصبيات التي صارت تتغذى على مختلف الأجندات الإقليمية.
يشكل هذا المزيج من العوامل الموضوعية والذاتية، خلطة متفجرة ودموية تنذر بتحول القوقاز الى مكسر للصراعات الإقليمية والدولية.
كانت إيران مرتاحة إلى حالة الجمود والتوازن المستقرة بين روسيا وتركيا حول القوقاز. كما ارتاحت إلى بقاء الغرب خارج معادلاته الفعلية. بل كانت تأمل استقطاب تركيا إلى مشاريع بوتين لأنابيب الطاقة والتجارة لتمتد من وسط آسيا، عبر بحر قزوين، وصولاً إلى ميناء جيهان التركي. فلقد حملت هذه المشاريع فرصاً ومكاسب هائلة لإيران، بخاصة إن سمحت هذه التوافقات بدق إسفين نهائي بين تركيا وأوروبا والغرب عامةً.
كانت روسيا، من جهتها، مرتاحة بعدما أعاد ستالين رسم حدود أقاليم القوقاز، وبعدما غيّر ديموغرافيته، اعتقد أنه سيضمن استمرار تناحر المكونات القومية والإثنية، بحيث يستحيل ضمان أي توافق يؤدي إلى فتح المضيق الاستراتيجي الذي يسمح بالتواصل عبر وادي نهر آراكس، نحو آسيا وتبريز في إيران ونحو تركيا. تماماً كما حصل بعد "سايكس - بيكو" في الشرق الأوسط.
اعتقدت روسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحروب ناغورني كراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، وبعد غزوها جورجيا والقرم، أنها نجحت في سد الثغرات الاستراتيجية في خاصرتها الجنوبية.
لكن الأرض ما لبثت أن اضطربت من جديد في القوقاز الشاهق الوعر. ومعها، عادت العصبيات الدينية والقومية للنهوض أيضاً. فما الذي تبدل؟
ذلك أن التوازن في القوقاز سرعان ما اختل! فلقد أطاحت مغامرة بوتين الأوكرانية مشاريع روسيا من جذورها، بخاصة بعدما قررت أوروبا قطع شرايينها مع روسيا. لذلك، حين اندفعت أذربيجان لحسم صراعها مع أرمينيا بدعم تركي (جيش واحد في دولتين)، لم تتحرك القوات الروسية في أرمينيا، بل خسرت روسيا بصمت ما يقارب ملياري دولار من العتاد. وبعد حرب استغرقت ثلاثة أيام، وافقت أرمينيا على التسليم بنصر الأذريين، وهجرة أرمن ناغورني كراباخ.
تلتقط تركيا التحولات الدولية والإقليمية الممتدة من أوروبا للشرق الأوسط والقوقاز. لذلك فهي تعزز مع أذربيجان عملهما لملء الفراغ وسط آسيا، وها هما تعملان بنشاط لضمان ممر لعبور التجارة والطاقة بين أذربيجان وتركيا عبر جنوب أرمينيا ذاتها.
وإذ تشعر أرمينيا بخطر على مستقبلها كدولة، فإنها تحاول تجنب أن تصير مكسر عصا إقليمياً بين تركيا وإيران.
ذلك أن إيران تنظر بقلق، وهي تجد خطراً جدياً في سيطرة القوات التركية على طوال مضيق نهر آراكس، الممتد بسهولة نحو تبريز عاصمة أذربيجان الشرقية في إيران. ولا شك أن إيران تعتبر أن هذه كارثة لها.
فرغم توزع الأذريين بين دولة أذربيجان وأذربيجان الشرقية التي عاصمتها تبريز في إيران، ورغم كونهم من المسلمين الشيعة، إلا أن التطورات الأخيرة تزيد من قلق الإيرانيين. فلقد عقد أولاد عمومتهم في أذربيجان، معاهدات متعددة مع إسرائيل شملت النفط والعلاقات الأمنية والاستراتيجية، لتصير أذربيجان نقطة تقاطع دولية تتشارك في تعزيزها تركيا وإسرائيل وحلف الأطلسي.
وفيما يغادر الروس مسرح جنوب القوقاز، فإنهم يراهنون بدورهم على الاحتفاظ بمواقعهم التي احتلوها في أبخازيا، وسيطرتهم على ممرات شمال القوقاز. لكن شمال القوقاز ذاته لا يبدو أكثر حظاً بالهدوء، ولا أكثر تحصيناً من الإرهاب، بخاصة بعد تصاعد الاضطرابات في بشكيريا، والشيشان، وداغستان.
في منطقة تتحرك فيها الطبقات التكتونية الاستراتيجية، بهذه السرعة، يجد الحلف الأطلسي فرصته. فبعد أوكرانيا، أصبح استقرار جنوب القوقاز أولوية على أجندة الأمن الأوروبي والأطلسي. وتأتي زيارة الأمين العام للناتو ستولتنبرغ بتوقيت مدهش مع احتفال بوتين بفوزه في الانتخابات.
في باكو، أعرب ستولتنبرغ عن امتنانه لمساهمات أذربيجان في المهمات التي يقودها الناتو. كما شجع على اتفاق سلام شامل ينهي عقوداً من الصراع بين أرمينيا وأذربيجان. في تبليسي - جورجيا، تركزت المناقشات على تعزيز الشراكة مع الناتو، وحماية موقعها في البحر الأسود، وتعزيز قدرتها في الأمن السيبراني، مؤكداًِ دعم الحلف مسار جورجيا نحو مزيد من الديموقراطية ونحو التكامل الأوروبي والأطلسي، ودعم إعلان بوخارست للحلف 2008 عن مستقبل جورجيا في الحلف.
حملت زيارة ستولتنبرغ ليريفان أهمية خاصة. فبعدما جمدت أرمينيا عضويتها في "معاهدة الأمن الجماعي" التي تقودها روسيا، وبعدما أعلنت التزامها العقوبات على روسيا، وبعدما انتقد رئيس الوزراء باشينيان روسيا علناً لفشلها في تقديم ضمانات أمنية بعد استعادة أذربيجان إقليم ناغورني كراباخ، جاءت زيارة ستولتنبرغ لتكرس الانعطاف الأرمني نحو أوروبا. وخلصت زيارة ستولتنبرغ إلى وعد نوعي بتطوير مسار خاص لتعاون فاعل بين أرمينيا والحلف والاتحاد الأوروبي.
وبدا واضحاً اهتمام الناتو بالتوصل إلى توافقات حول ممرات الطاقة عبر أرمينيا، بما يسمح بضمان سيادتها ومصالحها في سياق الحراك الإقليمي الجاري.
لكنّ ثمة أطرافاً لا ترتاح لهذا الوضع، وستسعى لتغييره، إذ ترى طهران بقلق خروجها من المشاريع الحيوية للتجارة والطاقة في القوقاز وتصاعد النفوذ التركي على طول قوس جنوب القوقاز ووسط آسيا.
لا تزال روسيا، من جهتها، تحتفظ بأوراق كثيرة تأمل أن تسمح بعرقلة المشاريع التركية والغربية بخصوص التجارة والطاقة في القوقاز. وهي، وإن تكن منغمسة حتى قمة رأسها في أوكرانيا، إلا أنها تتطلع بلا شك إلى لحظة تستعيد مبادرتها في وقت لاحق.
وإذ تتعقد كل هذه الغيوم فوق القوقاز، نسمع الكثير من قعقعة السلاح، ونشهد الكثير من الحراك الدبلوماسي. ولا شك في أن ثمة فرصة لتجنب الحرب، لكن تاريخ القوقاز ينبئنا بأن الطلقات الأخيرة التي انطلقت في ناغورني كراباخ، قد لا تكون الأخيرة في القوقاز.