كان الزعيم المجري الشعبوي يرحّب بالمشاكل. وإذا لم تطرق بابه عمد إلى صناعتها. فالحكمة التي ضمنت له الخروج ظافراً في أربع دورات انتخابية، تقول إنّ الهجوم هو أفضل وسيلة للفوز على الخصوم.
والنصيحة التي جاءته من متخصّص بالدعاية عرفه عن طريق صديقه بنيامين نتنياهو، هي "من الجيد أن يكون لديك عدو". لهذا دأب على خلق أعداء منهم الاتحاد الأوروبي، والمهاجرون، والإسلام، والملياردير المجري الأصل جورج سوروس، والمثليون.
فيكتور أوربان
وكثيراً ما يستفيض في سرد نظريات المؤامرة عن أكذوبة "الاستبدال" التي يردّدها العنصريون في الغرب، والحديث عمّن يتربصون بهنغاريا ويحاولون سلبها "سيادتها"، ويتلقون المال لكي يُركعوا هذه البلاد الصغيرة، مع أنّها لا تبدو حافلة بما يغوي هؤلاء الأعداء المتخيلين!
أما الآن، فالخصم بيتر ماغيار، الذي كان حتى الأمس القريب "من أهل الدار" في حزب "فيديس" الحاكم والزوج السابق لوزيرة العدل، سبقه إلى الهجوم، مدججاً بأدلة دامغة في قضية تثير جدلاً واسعاً. وقاد تظاهرة غير مسبوقة سار فيها نحو 150 ألف مجري للتنديد بالجريمة والمطالبة بمعاقبة المسؤولين عنها. قد يصيب هذا المتمرّد خصمه بجروح بليغة، لكنه لن يستطيع "قتله". ومن السابق لأوانه شطب زعيم ذكي له الكثير من الكاريزما والجرأة.
يعرف زوار البلاد شعار "هنغاريا صديقة العائلة" الذي يلاحقهم أنى ذهبوا. وربما كان الأخطر في "انتفاضة" ماغيار، هو اثبات أن تعهد أوربان احترام العائلة التي أحاطها بهالة من القدسية واتخذها ركيزة لمنظومة "فيديس" الإيديولوجية، كان مجرد كلام بكلام!
وهذه ليست خيانة النظام الأولى لمبادئه المزعومة. أعرب عن حرصه على الديموقراطية أولاً، ثم حولها إلى "ديموقراطية غير ليبرالية" أو بالأحرى "سلطوية" قولاً وفعلاً. وغياب الصحافة الحرّة في بلاد أوروبية صار الحزب الحاكم فيها يقبض على المؤسسات الاعلامية كلها، يؤكّد أنّ أوربان يتزعم "نظاماً هجيناً للاستبداد الانتخابي" على حدّ تعبير البرلمان الأوروبي.
إلاّ أنّ فضيحة التستر على وحش اعتدى على أطفال في دار للأيتام تابع للدولة، تمثل انتهاكاً سافراً للقيم العائلية، ولعلّها أخطر من كل الخيانات الأخرى. افتضح أمر الخيانة عشية انتخابات مزدوجة، بلدية وأوروبية، وكُشف أنّ بطلتها هي كاتلين نوفاك، الرئيسة التي قرّرت العفو عن المتهم الرئيسي في القضية. وباركت هذا العفو جوديت فارغا وزيرة العدل السابقة التي كانت مرشحة لقيادة فريق بلادها في الاتحاد الأوروبي.
ثم كانت القنبلة التي فجّرها ماغيار حين أذاع تسجيلاً لمطلّقته فارغا، تقرّ فيه بشيوع الفساد والتدخّل في عمل القضاء. وشدّد على أنّ السيدتين كانتا عبارة عن كبش فداء لحماية المسؤولين الحقيقيين عن التستر على المجرم، وهم أرفع مكانة وأقرب إلى الزعيم. وكانت هذه التطورات بمثابة الرافعة لقوة سياسية جديدة معارضة في طور التبلور.
أسهم ماغيار، الدبلوماسي السابق الذي تسلّم وظائف مهمّة، ترتفع باطراد، ويوليه المزيد من الناخبين الاهتمام الذي يستحقه. فقد شاهد المقابلة التي كشف فيها عن التفاصيل الحساسة نحو 2 مليون مجري، أي 20 في المئة من أبناء البلاد. وأفادت استطلاعات رأي أنّ 13 في المئة من المجريين قالوا إنّهم سيصوتون في انتخابات 2026 للحزب الذي يعتزم تأسيسه.
من المستبعد أن يشكّل قوة سياسية ضاربة تعرقل نجاح أوربان في الانتخابات المزمع إجراؤها في المجر وفي بروكسيل في حزيران (يونيو) المقبل. لكن الأرجح أنّ الفضيحة ستلقي بظلالها القاتمة على العمليتين الانتخابيتين.
في هذه الأثناء، المتوقع أن تبقى كتلة الوسط في صدارة البرلمان الأوروبي، فيما يرجح فوز اليمين المتطرّف بمقاعد جديدة على الرغم من تشرذمه، وصدامات الفرنسية مارين لوبان مع رفاقها الألمان في حزب "البديل"، ومع جورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية. أما أوربان فيقال إنّه توصل إلى تفاهمات مع ميلوني وروبرت فيكو نظيرهما السلوفاكي، لتشكيل جبهة واحدة في الانتخابات، وربما انضمّ إليهم خيرت فيلدرز السياسي الهولندي المعادي للإسلام.
غير أنّه سيذهب بمفرده إلى الانتخابات البلدية بشعبية أقل وصورة أضعف. حزبه استطاع أن يحميه الى درجة كبيرة بدعوى أن لا علاقة له بالعفو الأخير عن المتهم السجين. مع ذلك، لن يستطيع التهرب إلى ما لا نهاية من المسؤولية، باعتباره الزعيم الأوحد والصارم في هنغاريا.
واهتزاز صورته في الداخل، أو تراخي قبضته، سينسفان صورة السياسي القوي والأقدم في صفوف اليمين المتطرّف الأوروبي التي سعى لترويجها، لأنّه يعتبر نفسه عراب التيار الشعبوي المتشدّد في القارة. وهو يطمح إلى لعب دور مهم أبعد من حدود المجر الصغيرة. لذا اعتاد أن يبارك الأحزاب المتطرّفة الجديدة ويدعم من وصل من رفاقه الأيديولوجيين الى السلطة أو يكاد. كما لا يتأخّر في التعاون مع شخصيات يمينية مثل سويلا برافرمان، وزيرة الداخلية البريطانية السابقة التي سيقف إلى جانبها في مؤتمر "المحافظين القوميين" الشهر المقبل في بروكسيل. وعلى أي حال، هي تلميذته في العنصرية، إذ سبقها بأربع سنوات إلى توصيف المهاجرين الأجانب بـ "الغزاة". كما أفصح مراراً عن قناعات تمثل قواسم مشتركة للمتطرّفين الأوروبيين بشأن معارضة "التنوع" و"التعدد الثقافي"، ومعاداة الإسلام، والتأكيد على الحاجة لمنع الأجانب من "تلويث" بياض القارة أو تشويه معتقداتها الدينية، لأنّ "أوروبا للأوروبيين". إلاّ أنّ تحالفه الوثيق مع فلاديمير بوتين ومحاولاته الدؤوبة لمنع الاتحاد الأوروبي من تقديم المساعدات لكييف، تجعلانه على طرفي نقيض مع رموز اليمين في بريطانيا، مثل بوريس جونسون، ممن يستغلون أوكرانيا لرفع اسمهم.
وهذا لن يعوق استمرار التعاون بينه وبين حلفائه وتلاميذه، إذا لم تُلحق به الفضيحة كثيراً من الضرر. فكل منهم براغماتي و"واقعي" يبحث عن مصلحته أولاً.
وسيواصل العمل ومن ورائه الجماعات العنصرية، بهدف تغيير أوروبا "من الداخل" كما يزعم، وفرض رؤيته على القارة، كبديل لبرنامج ايمانويل ماكرون المعتدل.
هذه أضغاث أحلام. ويقول مسؤولون أوروبيون إنّ أوربان ماهر بإحداث الضجيج في بلاده بشأن هذه المسألة الأوروبية أو تلك، بيد أنّه بارع بالقدر ذاته، في الرضوخ للإجماع، ولو اتخذ ذلك طابعاً مسرحياً، كخروجه من الاجتماع في كانون الأول (ديسمبر) الماضي لكي يقرّر الزعماء بدء المفاوضات مع أوكرانيا حول طلب انتسابها الى الاتحاد. ويبدو أنّ رؤساء دول الاتحاد الأوروبي ضاقوا ذرعاً بجموحه ومحاولاته تعطيل قراراتهم، ليس دفاعاً عن بوتين فحسب، بل حباً بالفوضى التي يُقال إنّه مغرم بها وفخور بلقبه "رئيس الفوضى". فهل يقلّمون أظافره قريباً كي ينجوا من تهمة العجز عن محاسبة مشاغب مزمن.