ثمة علاقة بين إيران وتركيا والعرب، تجمعهم دائماً بين التقليد أو المخالفة، إذ كل طرف يتأثر بتجربة الآخر. وبالنسبة إلى الدولة الإيرانية فإنّ الخوف من تجربة الجمهورية في تركيا قادها الى استكمال النظام الملكي وتنصيب رضا بهلوي ملكاً على العرش، وكذلك الخوف أيضاً من علمانية تلك الجمهورية دفعها نحو الإسلامية!
وبالنسبة الينا، فإننا ما زلنا أيضاً نطّلع على تجربة إيران بعد ثورة 1979 للتعرّف على نجاحاتها وإخفاقاتها، وهو ما يحتاج إلى قراءة واعية، خصوصاً أنّ بيننا مَن تعجبه التجربة الدينية في إيران من دون قبوله أي نقاشات حولها؛ إذ يعتبرها في مكانة مقدّسة منزّهة عن الخطأ!
هذا تماماً ما أرادت إيران ولاية الفقيه أن يتشكّل في أذهاننا، أن يمتزج البشري بالإلهي، ويصبح تفكيك العلاقة بينهما أمراً صعباً.
لكن الواقع وتناقضاته هما السبيل للحكم على أي تجربة، فالاشتراكي الأوروبي كان يحدثنا عن عدالة نظامه السياسي والاقتصادي، بينما واقعياً كان يستعمر أراضينا لنهب ثرواتنا التي تُشغل مصانعه! وكذلك مَن يحدثنا اليوم عن "دولة الله"، فإنّه ليس بعيداً عن ذلك التناقض!
دولة الناس أم المَلك؟
حينما ظهرت الحركة الدستورية (جنبش مشروطه) خلال عهد الدولة القاجارية في إيران بين 1905 و1911، والتي طالبت بالملكية الدستورية وتشكيل البرلمان، امتد الصراع السياسي إلى داخل المؤسسة الدينية أيضاً، فظهر تيار يدافع عن النظام الملكي القائم، ويرفض الفكرة الدستورية ويتهم أنصارها بالفساد والانحراف ويُصدر فتاويه لمحاربتهم، وهو ما عُرف بتيار المستبدة (مشروطه مشروعه).
بينما على النقيض ظهر تيار آخر يدافع عن الإصلاحات وينتقد الاستبداد السياسي والديني، وهو ما سُمّي "تيار المشروطة".
والنقطة المهمّة هنا، أنّه للمرّة الأولى في تاريخ الدولة الشيعية منذ غياب الإمام الثاني عشر، يتمّ النقاش في مَن يَنُوب عن الإمام العادل الغائب، الأمة أم الآحاد؟ أي الديموقراطية أم المزاوجة بين الفقيه والسلطان؟
وفي تلك اللحظة التاريخية، ظهر ميرزا محمد حسين نائيني الذي تبنّى نظرية "نيابة الأمة"، ودافع عن مفاهيم الدولة الحديثة مثل الدستور والفصل بين السلطات والشورى والمساواة والديموقراطية في كتابه: "تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة".
ثم بعد إطاحة آخر الحكام القاجاريين عام 1925، كانت لرجال الدين سطوتهم على المجتمع الإيراني، وهو ما أخّر ميلاد "الجمهورية" خشية تكرار تجربة الجمهورية العلمانية التركية على أرض إيران، بخاصة أنّها قضت على سطوة رجال الدين داخل المجتمع التركي، وبناءً على ذلك، قام الإيرانيون بتنصيب القائد العسكري رضا عباس قلي خان (رضا بهلوي) ملكاً على إيران، أي اختار الإيرانيون مرّة أخرى أن يعيشوا تحت ظل دولة المَلك.
الجمهورية الإسلامية
بعد شهرين من قيام ثورة 1979، قرّر التيار الديني استغلال النفوذ الاجتماعي الذي اكتسبه إبان عهد الشاه محمد رضا، باسم أسلمة المجتمع ومحاربة الشيوعيين، وكذلك استفاد ذلك التيار من غضب الطبقات المهمّشة والمحرومة من الطبقة الارستقراطية والاقطاعية، ومن خدمة التيارات الفكرية القومية والمتغربة لمصالحها-، فقام بعد استفتاء لمدة يومين بإعلان قيام الجمهورية الإسلامية في الأول من نيسان (أبريل) 1979.
ورغم أنّ البعض عارض إضافة كلمة "الإسلامية" إلى الجمهورية، أو دعا الى استبدال "الديموقراطية" بها، خشيةً من تبعات ذلك على مستقبل الدولة الإيرانية، لكن الزعيم الديني، الخميني، رفض زيادة حرف أو نقصانه للاستفتاء على "الجمهورية الإسلامية".
كان الإيرانيون مشتاقين لغدٍ أفضل، لا يفكرون إلاّ في تحسين أحوالهم المعيشية ومغادرة الحقبة التي ملأتها الاعتقالات والاغتيالات والإعدامات السياسية.
وكذلك السلطة البهلوية التي لطالما كانت تعاملهم وكأنّهم أطفال قُصّر، لا يحق لهم تقييم النظام أو الحكم على سياسته الداخلية أو الخارجية-، جعلتهم لا يفكرون إلاّ في تغيير النظام الحاكم الذي قد فقدوا الثقة به.
لكن على الجانب الآخر، كانت النخبة الدينية المتمثلة في مراجع الحوزة وقادة الأحزاب الدينية، تنظر إلى الأمر على أنّه لحظة انتصار للسماء بميلاد "دولة الله" على الأرض ووراثة الصالحين لها، فقال الخميني في خطابه التلفزيوني للشعب الإيراني بعد إعلانه نتيجة ذلك الاستفتاء بالموافقة على تأسيس الجمهورية الإسلامية: "لقد وعد الله بأنّ الغلبة للمستضعفين على المستكبرين، وبأن يجعل منهم أئمة وقادة"، واصفاً أحكام "الجمهورية الإسلامية" بأنّها "أكثر تقدمية على سائر المدارس الأخرى"!
ثم في جزء آخر من خطابه، قال: "إنّ الأول من نيسان (12 فروردين) هو اليوم الأول من حكومة الله الذي يجب أن نتخذه عيداً بالانتصار على 2500 سنة من حكم الطاغوت وسقوط السلطة الشيطانية إلى الأبد واستبدالها بحكومة المستضعفين".
كان خطاب الخميني يؤسس لدولة دينية أكثر منها ديموقراطية، فـ"حكومة الله" جاءت بتضحيات المستضعفين آنذاك، لكنها لن تسمح لهم مرة أخرى بالقضاء عليها مستقبلاً، فهي باتت مقدّسة باسم الله، والعمل ضدّها سيصبح مِن فعل الشياطين. وهنا سيبدأ تناقض نظام ولاية الفقيه، هل يسمح للناس بتقرير مصيرهم والخلاص من سلطة تتحدث باسم الله إذا ما استبدت بهم؟!
الديموقراطية الدينية
في احتفال النظام الإيراني بعيد الجمهورية الإسلامية هذا العام، ركّزت المنابر الإعلامية الموالية على عبارة "الديموقراطية الدينية"، أي إنّ الديموقراطية في إيران مشروطة بالقواعد الدينية، وتلك يُحدّدها رجال الدين، وأولئك ما يحكم مواقفهم السياسية هما المصلحة ومصير طبقتهم الاجتماعية!
نظرياً، كانت الديموقراطية الدينية هي الآلية الثانية لضمان هيمنة رجال الدين على السلطة في إيران، إذ هناك جمهوريات إسلامية أخرى في العالم، لكنها لم تمنح رجال الدين (الملالي) هذه المكانة السياسية التي حصلوا عليها في إيران؛ إذ تمتلئ أروقة المؤسسات الحكومية والبرلمان والقضاء ومجالس المراقبة والمحاسبة بأصحاب العمائم، الذين أوصلهم الولاء لنظامهم (ولاية الفقيه) إلى مقاعد السلطة!
أيضاً، يجب أن نضع في الاعتبار، أنّ هيمنة رجال الدين على السلطة والحياة السياسية والاجتماعية في إيران كانت نتيجة علاقة جدلية جراء التهميش الذي تعرّضوا له إبان الدولة البهلوية باسم التحديث وتطوير الدولة، وهو ما جعلهم يصيغون نظاماً هذه المرة يضمن لهم عدم الخروج من المشهد مرّة أخرى!
لكن الوضع الآن انقلب عليهم، فقد كانت الانتخابات البرلمانية الأخيرة صادمة، إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة 41% للمرّة الأولى في تاريخ الجمهورية الإسلامية، ما يعني أنّ هناك تغييراً حصل في مزاج القاعدة الشعبية التي أتت بهذا النظام، والذي لطالما كرّر في خطاباته أنّه أول نظام ديموقراطي ديني في تاريخ الدولة الإيرانية.
وآنياً، فإنّ مسألة "الدينية" يتخذها نظام الملالي اليوم مبرّراً لتآكل "الشعبية"، إذ يريد أن يقول إنّ صوت الأكثرية ليس دليلاً على الجانب الصحيح، بل صوت القلة المؤمنة التي تتمسك بالقواعد التي رسمها نظام ولاية الفقيه الذي يمثل "دولة الله".
وهذا الأمر سيضع النظام الديني في إيران أمام مفارقة وتناقض في خطابه، وهو ما سيدفع الشعب الإيراني إلى إدراك أنّ المستضعفين باتوا اليوم هم المستكبرون، لكنهم يتحصنون باسم "دولة الله" في الأرض.
وعملياً، إذا نظرنا إلى بيان مجلس صيانة الدستور (بمثابة المحكمة الدستورية) الذي يقوم بتحديد مَن يحق له الترشح في أية عملية انتخابية، لمناسبة ذكرى تأسيس الجمهورية الإسلامية، ندرك أنّ الديموقراطية في إيران ليست أزمتها الإسلامية؛ بل الطبقة الدينية التي تحتكر دين الله لخدمة مصالحها، فيقول البيان: "إنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي نموذج جديد في إدارة مصائر الناس من خلال الديموقراطية الدينية... إنّ يوم استفتاء تأسيس الجمهورية الإسلامية، هو في الواقع صرخة مدوية للديموقراطية في ظل حكم الله"!
لقد أصبح النظام يبيع للإيرانيين خطابات كهنوتية، بينما رجال الدين لم يعودوا مستضعفين، ويمارسون ما فعلته الحكومات المستكبرة نفسها، وهو ما وضع إيران على قائمة الدول الأعلى فساداً في العالم من حيث سرقة الأموال العامة والاختلاسات والرشوة. وكذلك تواجه إيران ارتفاعاً في مستوى الهجرة لأسباب تتعلق بالفشل الاقتصادي والمحسوبية وغياب العدالة والمساواة وسوء توزيع الثروة، ويأتي ذلك في ظل نظام يقدّم نفسه نموذجاً لتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا قبل الآخرة!
والمحصلة، أنّ تجربة الديموقراطية في إيران هي نتاج تجربة بشرية عايشتها تلك الدولة، وإنّ النظر إليها بنظرة مقدّسة، هي النظرة التي أملاها رجال الدين على مسامع الناس، لكنها بعيدة كل البعد عن واقعها، فالشعب الذي ثار على النظام الشاهنشاهي بالأمس، هو نفسه مَن فَقَد الثقة اليوم بنظام ولاية الفقيه؛ وهو مَن يقرّر مدى صلاحية نظامه الديموقراطي وليست السلطة التي تحكمه!