أعتقد أني كنت في سنتي الجامعية الأولى حينما صادفت مقالة في صحيفة "ذا غارديان" تشكو فيها إحدى القابلات البريطانيات من انتشار ما وصفته آنذاك بـ"وباء إبرة الظهر للتخدير"، إذ تلجأ إليها ثلث النساء في بلادها.
لقد كانت القابلة تستحث النساء على الاستغناء عن كل سبل تسكين الألم أثناء الولادة باعتبارها "طقس عبور" إلى الأمومة، وما الألم سوى عنصر خالد وحتمي للطقس.
وربما تصادف تلك القابلة مقالتي الآن بعد انقضاء 15 سنة، فسأزف لها البشرى السارّة بأن العالم يبدو متجهاً إلى "وباء الولادات الطبيعية" كما تمنت.
إنها موجة ملحوظة، وجارفة، خلال السنوات العشر الماضية، تقودها حتى بعض المنضويات تحت راية النسوية، وعنوانها هو التخلي طوعاً عن مسكّنات الألم، والاكتفاء بالولادة الطبيعية، بل و"الاستمتاع" بها، والانغماس فيها، بكل مشاقها وجنونها، بذريعة أن جسد المرأة مهيأ ومصمم أصلاً للولادة، ولا حاجة له إلى المساعدة.
أما عرّابات الموجة، فهن النساء اللواتي تنشر الواحدة منهن في وسائل التواصل الاجتماعي صورتها على سرير الولادة، حاملة بين ذراعيها رضيعاً لا يزال يرص عينيه متفادياً الضوء، مع تعليق استعراضي متبجّح يقول: "لقد فعلتها، ومن دون إبرة التخدير".
تستمد هؤلاء النساء شعورا عظيماً بالفخر والإنجاز والتمكين من قدرتهن على الوضع من دون الاستعانة بالمسكّنات، وكأنما يصيّرهن خيارهن أمهات أفضل، وأجدر، بل و"أمهات أكثر". لقد نجحن في "طقس المرور" إلى الأمومة – كما وصفته القابلة السالفة الذكر - من دون غش، ولا اختصارات، ولا أدلة في الطريق ينثرها هرمون الـ"أوكسيتوكين" لتحفيز الطلق الصناعي. لقد نجحن بالعلامة الكاملة.
ولكم أن تتخيلوا الضغط الذي بات يشكّله هذا "التباهي" على الأمهات الأخريات، إذ يرفع أمامهن المعيار السخيف والاعتباطي لتحديد ماهية "الأم الصالحة"، ويدفعهن إلى اختيار آلام وعذابات لا يطقنها، فقط لإثبات جدارتهن، وقدرتهن على التحمل.
إنني فقط أتساءل: لماذا لا نرى من يطالب ببتر أعضائه من دون تخدير ليشعر بنشوة الإنجاز؟ أو آخر يجري عملية قلب وهو في كامل وعيه ليخرج سعيداً بـ"قوة قلبه" الحرفية والمجازية؟ ولماذا لم نسمع من يصف خلع أضراس العقل بـ"طقس العبور إلى الرشد"، ويحضنا على الإقبال عليه من دون مخدر موضعي لأن ذلك الوجع اللعين هو عنصر خالد وحتمي من الطقس؟
لماذا يقتصر هذا "التحدي"، والحاجة إلى إثبات الصلابة والصبر، على النساء؟ ولماذا الإلحاح عليهن وحدهن ليرحّبن بالألم الجسدي، والتلميح إلى أن تخفيفهن من حدته هو عجز، أو جبن، أو تقاعس، أو – وذلك أدهى وأمرّ - "دلال مفرط"؟
أتفهم أن يأتي "وباء الولادات الطبيعية" في وقت كهذا، فهو رد فعل على التطوّر الطبي الذي أتاح للنساء "جدولة" عملياتهن القيصرية أسوة بمواعيدهن مع الكوافيرة.
ولكن كل هذا الرفض لمسكنات الألم، وللوسائل الطبية الحديثة، ليس سوى بصقة وقحة في وجوه ملايين النساء اللواتي قضين أثناء الوضع عبر التاريخ.