حوّلت الجمهورية الإسلامية في إيران "يوم القدس العالمي" الى يوم لتسويق نفسها، بحيث كادت قضية القدس تغيب عن خطبائها وخطباء "محور المقاومة"!
في "يوم القدس العالمي" كانت النجومية لإيران، فهي القائدة وهي المقدسة وهي القوية وهي الأبية وهي الحكيمة وهي الصامدة وهي المضحيّة وهي الداعمة، وهي الأصل!
القدس كانت مجرد عنوان فرعي تمامًا كعذابات كل فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن المرميّة دولها كلّها في جحيم لا يشبع نارًا ولا يشتهي خمودًا!
استهدفت إسرائيل قيادات إيرانية تتهمهم بتنسيق عمليات تنظيمات "محور المقاومة" ضدها، فباتت الجمهورية الإسلامية عظيمة التضحيات، في الخطب الرنانة!
لم تطلق إيران، لا فعلًا ولا ردة فعل، صاروخًا واحدًا على إسرائيل. تبرّأت ممّا يفعله "حزب الله" في لبنان و"أنصار الله" في اليمن و"المقاومة الإسلامية" في العراق، و"حركة حماس" في غزة و"الجهاد الإسلامي" في الضفة الغربية، ولكنّ الأمين العام ل"حزب الله" حسن نصرالله، في خطابه أمس، لم يكن مضطرًّا، وهو يذكر، مرارًا وتكرارًا، "القائد"، أن يرفق الصفة العظيمة باسم مرشد "الجمهورية الإسلامية" علي خامنئي. بالنسبة إليه، الجميع يعرفون من هو قائده!
القائد يتملّص ولكن المنقاد يتمسّك ويمتدح ويعظم ويقبّل الأيادي!
هذا القائد بكل الصفات المسبوغة عليه، يبدو أنّه أعطى إسرائيل التي كان "ينتظرها على غلطة" حتى يرميها في البحر، رخصة قتل!
كانت إسرائيل متيقنة، وهي تهاجم القنصلية الإيرانية في دمشق حيث تجتمع قيادة "فيلق القدس" في لبنان وسوريا، بأنّها لا تغامر. لقد فهمت أجهزتها المخابراتية بأنّ "الصبر الإستراتيجي" الذي "أدلجته" إيران، بعد أيّام من "طوفان الأقصى"، ليس سوى رخصة قتل!
جرّبت إسرائيل هذه الرخصة، مرات ومرات. في سوريا وصل عدد قتلى "فيلق القدس"، منذ آخر تشرين الثاني ( نوفمبر) الماضي حتى الأول من نيسان ( أبريل) الجاري الى 18 قائدًا وضابطاً ومستشارًا، من دون أن تحرّك إيران سوى لسانها، مرددة ما كانت قد بدأت بقوله عند اغتيال واشنطن لقائد فيلق القدس قاسم سليماني، في بداية العام 2020.
وسبق أن جرّبته في لبنان، فهي تستهدف من تشاء أينما تشاء، ولكن "حزب الله" ينضبط في ردود معروفة قدرة إسرائيل على استيعابها واحتوائها، فخسائر الرد مهما كانت لا توازي مكاسب الإستهداف.
الثمن الذي ترجوه إيران من خسائرها لا تؤمن بأنّها قادرة على جنيه من دخولها المباشر في الحرب، بل من الانتظار على ضفة مآسي غزة. وهي ترجو أن تناله بفضل أكثر دولة تشتمها، ليلًأ نهارًا، أي الولايات المتحدة الأميركية التي دخلت في صراع سياسي ودبلوماسي حقيقي مع إسرائيل، إذ لم تعد شرائح واسعة من الناخبين فيها قادرة على قبول مستوى الجرائم الإسرائيليّة. الديموقراطية الأميركية هي رهان "ثيوقراطيّي" الجمهورية الإسلامية ، إذ إنّهم يستطيعون، مهما كانت الكلفة باهظة، أن ينتظروا، لأنّ الرأي العام لديهم إن لم يرضَ يقمع!
"يوم القدس العالمي" كان مناسبة لـ"تضييع الشنكاش". التمجيد بإيران لم يكن بسبب ما ردت به على إسرائيل، بل تعويضًا عن إمعانها في درس "الصفعة" التي يمكن أن تستوعبها إسرائيل.
حتى تاريخ كتابة هذه السطور، لم يكن "حائك السجاد" قد أنهى الحياكة، فكل الاحتمالات المطروحة أمامه لها كلفة غالية، فإسرائيل لن تتخلّى عن "رخصة القتل"، وهي مستعدة للدفاع عنها، حتى لو كلّفها ذلك حربَا إقليمية، أو حرباً واسعة مع لبنان.
وإيران لا تريد أن تضحي بذاتها الهشة حيث مجرد فكرة الحرب أسقطت عملتها الوطنية الى مستويات تاريخية، في ظل أنين البطون وهجرة الأدمغة، كما لا تريد أن تضحي ببنية "حزب الله" الذي لا يريد أن يلتفت أحد الى نزيفه المستمر وعذابات الجنوب الضخمة وخسائر لبنان الكبرى.
إنّ إيران ملزمة بالرد على الهجوم الإسرائيلي على قنصليّتها، ولكنّها تبحث عن رد لا يدخلها في حرب. خوفها من أن تستغل إسرائيل أي رد، مهما كان عاديًّا، من أجل تبرير فتح حرب معها، الأمر الذي لا يمكن أن يُبقي الولايات المتحدة الأميركية، بمنأى عنها!
لقد استغلّت إسرائيل هجوم طائرة انقضاضية على قاعدة إيلات البحرية، من أجل أن تستهدف القنصلية الإيرانية، كاشفة للجميع أنّ طهران تحوّل ممثلياتها الدبلوماسية الى مقرات عسكرية.
وليس هناك ما يمكن أن يطمئن إيران بأنّ إسرائيل لن تستغل أيّ رد، حتى لو أتى من العراق أو اليمن، من أجل توسيع رقعة استهدافاتها.
لا يمكن لإيران أن تستعمل "حزب الله". لقد احترقت قدرتها على التهديد به. هو في صلب المعركة ولكنّه يتكبّد ما يكفيه من خسائر. في "معركة المشاغلة" خسر من المقاتلين ما يفوق عدد هؤلاء الذين خسرهم في حرب لبنان الثانية في تموز ( يوليو) 2006.
وما يكابر "حزب الله" على الإعتراف به، يُظهره توتّر نصرالله في خطاباته، حيث بدأ يفقد الكثير من الحصافة التي طالما ميّزته، فهو لم يعد يهاجم خصومه وأعداءه بالمنطق بل بتعابير لا تليق عادة ب"السيّاد"!
وعليه، لم يكن أمام طهران لتغطي على هذه الحقائق سوى أن تسرق من القدس نجوميّتها!