قبل أيام نشرت المفوضية الأوروبية التقرير التاسع عن التماسك الاقتصادي والاجتماعي والاقليمي في منطقة الاتحاد. وهي وثيقة ترسم صورة متوترة لمستقبل الكيان الأوروبي، رغم التقدم الذي سجلته القارة خلال العقدين الأخيرين، إلّا أنّها تواجه اليوم أكثر من تحدٍ وجودي، من شأنها أن تضع وجود الكيان الاتحادي برمته موضع التشكيك.
على المستوى الإيجابي، شكل توسيع عام 2004 رمزاً لنجاح سياسة التماسك. بعد مرور عشرين عاماً منذ التوسعة، أدت سياسة التماسك التي ينتهجها الاتحاد إلى تقارب ملحوظ. وفي أوروبا الوسطى والشرقية ككل، ارتفع دخل الفرد من 52% من المتوسط في الاتحاد الأوروبي في عام 2004 إلى ما يقرب من 80% اليوم. وفي الوقت نفسه، انخفض معدل البطالة لديهم من 13% إلى 4%.
وفي تناقض صارخ مع ركود عام 2009، انتعش الناتج المحلي الإجمالي بقوة بعد تفشي الوباء. ومع ذلك، فقد تباطأت وتيرة التقارب الاقتصادي بشكل مستمر بعد الركود الذي حدث في عام 2009. لقد كان تأثير الركود الذي شهده عام 2009 على التقارب والاستثمار والناتج المحلي الاجمالي، كبيراً ومستمراً بالفعل. وفي هذا السياق الصعب، لعبت سياسة التماسك دوراً محورياً في التحسين الشامل للمؤشرات الاقتصادية والتوظيفية والاجتماعية في الاتحاد الأوروبي.
تلعب سياسة التماسك دوراً رئيسياً في دعم الاستثمار العام. وخلال الفترة 2014-2020، مثلت هذه السياسة ما يقرب من 13% من إجمالي الاستثمار الحكومي في الاتحاد ككل، و51% في الدول الأعضاء الأقل نمواً. وقد عملت هذه الاستثمارات على تعزيز نموذج النمو الأوروبي، وتحفيز النمو الاقتصادي بما يتماشى مع أولويات السياسة الرئيسية من التحول المزدوج إلى الإبداع والأعمال التجارية والمهارات، ومن رعاية الأطفال والتعليم والصحة إلى الحماية من الكوارث الطبيعية. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات وإمكانات غير مستغلة وجيوب للفقر موجودة في كل منطقة.
أما في المستوى السالب، فالتحدي الأساسي الذي يواجه الإتحاد هو التغيرات الديموغرافية التي ستؤثر على جميع المناطق في العقود المقبلة. مع ما سيخلفه ذلك من تقلص القوى العاملة، وشيخوخة السكان. وتميل التحديات إلى أن تكون أكثر حدة في المناطق الريفية ذات الكثافة السكانية المنخفضة. في عام 2020، انخفض عدد السكان للمرة الأولى بسبب زيادة الوفيات المرتبطة بكوفيد-19، مع عدم كفاية الهجرة الصافية لتعويض الانخفاض الديموغرافي. ومن الممكن أن ينخفض عدد السكان في سن العمل في الاتحاد بنسبة 6.5% بحلول عام 2040، وهو انخفاض قدره 15 مليون شخص مقارنة باليوم. وبالتالي فإنّ زيادة الإنتاجية أو الحفاظ على السكان النشطين عند مستوى مستدام تحتل مكانة متزايدة الأهمية في الأولويات والاتجاهات الرئيسية التي يتعين على كل حكومات الاتحاد أن تواجهها، بدرجات متفاوتة. فالعواقب المترتبة على هذا التغير الديموغرافي الهيكلي عديدة: فمن الممكن أن تؤدي بشكل ملحوظ إلى زيادة الضغوط على المالية العامة والتكيف الضروري للخدمات العامة - من الصحة إلى التعليم، بما في ذلك أنظمة التقاعد.
وعلى نحو مماثل، من المرجح أن تؤدي تأثيرات التحول الرقمي وتغير المناخ إلى تفاقم الفوارق الاقليمية في الاتحاد الأوروبي. في الناحية الرقمية، أحد ركائز سياسة التماسك، والتي تستفيد من 56 مليار يورو في الإطار المالي متعدد السنوات 2021-2027، يعاني الاتحاد من تعمّق الفجوة بين بلدانه. بين عامي 2001 و2022، تظهر البيانات أنّ الدول التي قدمت أقل مبالغ من الإنفاق على البحث والتطوير - وآخرها رومانيا - ليست تلك التي قدمت أعلى معدلات النمو في هذا الإنفاق. وبعبارة أخرى، تظل تدفقات رأس المال إلى الداخل، بما في ذلك الاستثمار المباشر الأجنبي، متركزة في المناطق الأكثر تقدّماً.
أما على مستوى المناخ، فتخصص سياسة التماسك أكثر من ربع ميزانيتها، أي أكثر من 100 مليار يورو، لسياسات العمل البيئي في سبيل تشكيل قناة لتمويل الاستثمارات اللازمة لعملية التحول المناخي، حيث تتزايد الحاجة الملحّة لهذه الاستثمارات مع زيادة التكاليف المرتبطة بالظواهر الجوية المتطرفة. ففي عامي 2021 و2022 وحدهما، تجاوزت الخسائر الاقتصادية المرتبطة بالظواهر الجوية المتطرفة في أوروبا 100 مليار يورو. وهذا يعادل كامل الميزانية المخصصة للركيزة البيئية لسياسة التماسك للفترة 2021-2027. لكن التحدي، الذي يمكن أن يهدّد تماسك الاتحاد مستقبلاً، هو أنّ هذا العبء يتوزع بشكل غير متساو بين المناطق. فالتكلفة الاقتصادية المقدّرة لزيادة درجات الحرارة بمقدار درجتين مئويتين بحلول عام 2050 في المناطق الساحلية ومنطقة البحر الأبيض المتوسط ــ الأكثر تضرراً ــ سوف تصل إلى 1% من الناتج المحلي الاجمالي سنوياً، مقارنة بتكلفة تقدّر بنحو 0.44% من الناتج المحلي الاجمالي للاتحاد بالكامل.
كما أنّ التأثير الاجتماعي والاقتصادي الذي تخلفه السياسات البيئية على السكان وتأثيراتها على إعادة التوزيع على الوظائف والدخل، تحدّ بلا أفق للحلّ حتى الآن، ويمكن أن يشعل احتجاجات وحتى ثورات اجتماعية تدفع بعض دول الاتحاد للخروج من الكيان الأوروبي. فبحلول عام 2030، قد تختفي ما بين 54 ألف وظيفة إلى 112 ألفاً في صناعة الفحم. والمناطق الأربع التي تركز أكبر حصة من الوظائف (أكثر من 9%) في القطاعات كثيفة الكربون، تقع في ثلاث دول هي المجر، والتشيك وألمانيا.
منذ أزمة 2008 المالية العالمية، أصبح الاتحاد الأوروبي مدركاً لحقيقة مفادها أنّ الالتزام بالمشروع الأوروبي صار موضع تساؤل وتشكيك لأسباب تتعلق بتباين أوضاع الدول الأعضاء، في مستوى المنافسة الحرة التي تعمل على تفاقم الاختلافات الاقليمية، والعولمة التي تعمل على تحويل قواعد التجارة، والاختلافات الثقافية التي تعارض التماسك الاجتماعي. واليوم، أصبح هذا التماسك، ليس فقط موضع تشكيك بل تهديد وجودي، في ظل التحول الجيوسياسي الذي تشهده القارة الأوروبية منذ عودة الحرب إلى أراضيها قبل عامين.