مع استعصاء غزوة بوتين، يتصاعد شعور أوروبا بخطر التوسع الروسي، لتصبح مآلات الحرب مجهولة، يوماً بعد يوم. ومنذ أن شنت "حماس" هجومها على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فتحت الحرب أبوابها على مصراعيها في الشرق الأوسط وراحت تتدحرج نحو حرب إقليمية لا يمكن التنبؤ بآفاقها. وبدورها، تلوح الصين بتهديداتها لتايوان، وتلعب لعبة صواريخ كوريا الشمالية، وتمضي في توسيع محيطها الإستراتيجي.
ليس هذا المشهد مجرد نتيجة لوصول أشخاص حمقى أو لا يمكن التنبؤ بهم، إلى سطح المشهد الدولي. فتلاطم أحجار البلياردو على الرقعة الدولية في كل اتجاه، يجعلنا نعتقد أن المخاطر تعود إلى أسباب أعمق بكثير. وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، نجد أننا غير قادرين علي التنبؤ بما سيكون عليه العالم بعد شهرين.
يموت أمام أعيننا نظام عالمي أسسته الولايات المتحدة في ظل الحرب الباردة الأولى، لنشهد اشتعال فوضى عالمية، في مخاض لنظام عالمي جديد مختلف. وسواء تم ذلك بحرب باردة أم ساخنة، ينهار عالم القطب الواحد لكن مخاض النظام البديل يتعسر.
وفيما تعمل الولايات المتحدة، الدولة العظمى المعاصرة، ومعقل "الديموقراطية الليبرالية" لتثبيت هيمنتها الكونية، وإعادة إنتاج عناصر قوتها، فإننا نرى دولاً صاعدة بنموذجها الاقتصادي الهجين، وبمعضلاتها البنيوية، تنازع أميركا على موقعها، بل قد تجابهها من أجله.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تأتي هذه التحولات في لحظة غاية في الحراجة والدقة والخطورة. إنها تقاتل، من أجل الحفاظ على نموذجها الديموقراطي الليبرالي الذي تعتقده جوهر تفوقها علماً وصناعة ورفاهاً، لكنها تجد نفسها تعبر جسوراً قلقة للغاية في سياق التحولات العاصفة في بنيتها الاجتماعية والاقتصادية. ويجري ذلك بينما يجرها التنافس الدولي الشرس إلى تسعير تطورها التقني والعلمي والثقافي والاقتصادي إلى حده الأقصى، ليزيد من حالة عدم اليقين ويقلب المجتمع رأساً على عقب.
ويجري كل ذلك فيما تقاتل الولايات المتحدة بأسنانها الاستراتيجية، للحفاظ على تفوقها الاستراتيجي والعسكري، وريادتها العلمية والتقنية والثقافية.
يعتقد كبار الباحثين الاستراتيجيين أن العالم مقدم على تحولات وانهيارات قد تكون كارثية. وفيما تجد الولايات المتحدة اقتصادها الأقل ارتباطاً بالعولمة، فإنها لا تجد نفسها راغبة في الاستمرار بحماية العولمة القديمة، بل تجد أن هذه العولمة فتحت فضاء الاقتصاد الأوروبي والأميركي للصين. لذلك لم تعد مهتمة إلا بضمان حماية أمن حلفائها، وضمان ما يلزمها ويلزم حلفاءها من سلاسل التوريد، ومن سيطرة معلوماتية وعلمية. وما لم ينشأ تهديد جوهري وشيك على مصالحها، فإنها لن تتورط قط على الأرض في أي حرب بعد الآن. وسوى ذلك، "بطيخ يكسر بعضه".
تدرك روسيا من جهتها، تراجع موقعها التنافسي الدولي بمعايير القرن، بسبب بقائها دولة مصدرة للمواد الخام، كما تدرك مخاطر أفولها الديموغرافي بعدما أحجم القوم الروسي عن التكاثر لعقود. لذلك تقاتل روسيا حتى الرمق الأخير، لإعادة عقارب الساعة إلى أيام اتفاقات يالطا، إذ هيمنت روسيا بفضل اتفاقيات يالطا على شرق أوروبا، لتصبح غزوة أوكرانيا تحدياً مصيرياً، علها تعيد فرض نفسها طرفاً في صوغ الأمن الأوروبي والعالمي.
وإذ لا يطابق حساب السوق عند بوتين، حساب الصندوق، وإذ تطول غزوته الأوكرانية، نشهد ميلودراما ساخرة وفاجعة معان، إذ تتفانى روسيا العظمى في طلب المساعدة من دول لا تقاربها حضارياً بأي مقياس. فها هي القطارات الطويلة تعبر سيبيريا من كوريا الشمالية، وها هم مئات الخبراء الإيرانيين يبنون معامل المسيرات في روسيا.
أما الصين فتعمل على خطين متوازيين: الخط الأول هو الحفاظ، ما أمكن، على نظام عالمي راحل، وذلك بهدف ضمان استمرار سلاسل الإنتاج والملاحة والطاقة والأسواق. فهي تعتمد أولاً اعتماداً حيوياً على استيراد مستلزماتها من الطاقة والمواد الخام، ويعتمد نموذجها الاقتصادي ثانياً على التصدير إلى أوروبا والولايات المتحدة بما يقارب نصف دخلها القومي.
لكن الصين تحضر من جهة أخرى لبدائل للنظام العالمي الراهن، إذ تسعى لبناء نطاق استراتيجي حيوي، تنفذ فيه قوتها، وتجعله فضاءً لاقتصادها. كل ذلك فيما تعاني الصين بدورها مشكلات ديموغرافية جدية تجعلها أكثر تحفزاً وتأهباً للدفاع عن استقرارها الداخلي.
وفي ظل تفكك العولمة، تخترق الصين بدورها الحظر المفروض على النفط الروسي والإيراني، لتشتريه بأسعار منخفضة، وتعيد تصديره من مصافيها. وتستمر بنشاطاتها البحرية لفرض هيمنتها على ما تعتبره منطقتها الاقتصادية الحيوية، لتنخرط في مجابهات مع الفلبين واليابان وإندونيسيا وفيتنام وغيرها من دول بحر الصين وشرق المحيط الهادئ.
ولا تقصر إيران بالطبع كراعٍ وجودي لأذرعها في الشرق الأوسط سلاحاً وتدريباً وتخطيطاً. وتدعمها روسيا في كل مجهودها العسكري والحربي والدبلوماسي. لكن في السابع من تشرين الأول، صار المزاح الأيديولوجي الإيراني جدياً وخطيراً. لذلك لم تعد الولايات المتحدة ولا إسرائيل تقبلان بالمعادلة القائمة في الإقليم، حيث تصبح أذرع إيران خطراً ماثلاً أكثر بكثير من مخاطر برنامجها النووي.
لذلك، بغضّ النظر عن الموقف من سادية نتنياهو، تتشارك الولايات المتحدة، بل أوروبا، التصميم على تغيير قوانين اللعبة في الشرق الأوسط. وإذ يتابع العالم، بترقب كبير، مدى استعداد إيران لهذه التحديات، يبدو واضحاً أن الشرق الأوسط لن يستقر إلا بتغير جوهري لهذه المعادلات. لذلك كما في أوكرانيا، ستطول حرب غزة وما حولها كثيراً، لتتمحور الحسبة الآن حول احتمال انزياح الحرب الإقليمية حول لبنان.
ولأن الأواني الدولية هي أوانٍ مستطرقة، صرنا، شئنا أو أبينا، وبغض النظر عن وعينا، في صلب حرب باردة كونية ثانية، بل نكاد نصبح علي شفا حرب ساخنة إقليمية-كونية لكنها لا تزال حرباً مصغرة. بل لا يستبعد بعض الخبراء اغتنام الصين هذه الفرصة في المحيطين الهندي والهادئ، لتصبح اللحظة بحسب روبرت غيتس "أكثر اللحظات تعقيداً وخطورة في الأمن الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية".
ومع دخول المزيد من اللاعبين العرضيين والطفيلين والانتهازيين على مناخات الصراعات الدولية، تكتمل صورة المخاطر، لتمتد من السودان إلى وسط آسيا والقوقاز ثم إلى مالي والنيجر وصولاً إلى فنزويلا وغويانا.
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولي انطلقت الشرارة من عصبة صغيرة للمتطرفين الصرب، لكن خلال ستة أشهر نسي العالم المهووسين العقائديين الصرب، وصار همه إنهاء حرب قتلت ما لا يقل عن خمسين مليوناً.
سيكون وهماً انتحارياً أن لا نرى أن العالم يتدهور نحو انفلات عام للأمن الدولي، ليصبح فيه اللاعبون الصغار وميليشياتهم مجرد شرارات منسية تسحقها رحى صراع الكبار.