"الفقر ليس مشيئة الله!".. مقالة قديمة في صحيفة "اقتصاد سرآمد" للكاتب الإيراني غلام رضا مصدق، لكن عنوانها متجدد! فقد انتقد الكاتب أصحاب المنابر الدينية وهم يقدسون الفقر ويعتبرونه نتيجة إرادة الله سبحانه وتعالى لاختبار عباده وتزكيتهم!
وينتقد الأكاديمي الإيراني النظرة التي تعظّمت تجاه الفقر في ظل حكم الملالي لبلاده، ويتساءل: "إذا كان كذلك، فلماذا لا يختبر الله عباده في الدول الغنية مثل السويد والدنمارك وسنغافورة؟".
غرض الكاتب من هذا السؤال، هو استنكار الحال! وفي إشارة إلى الفساد والتجارة باسم الله، يقول: "إن السر في تقديس الفقر على مر التاريخ، أن مَن يصنعون للفقرِ فضائل، هم أنفسهم ليسوا فقراء!".
وإذا نظرنا إلى الواقع الإيراني في ظل العقوبات والفساد والتضخم، فإن إحصاء مركز أبحاث البرلمان الإيراني، يشير إلى أن خط الفقر قد اتسع ليشمل 40% من عدد السكان البالغ أكثر من 88 مليون نسمة.
واتساع قاعدة الفقر في بلد غني مثل إيران دليل واضح إلى الفشل الاقتصادي وإلى تفشي الفساد، لا سيما إذا ما علمنا أن عدد المليونيرات الإيرانيين أربعة أضعاف عددهم في تركيا!
واقع يخالف الإحصائيات
كثيراً ما تخرج بيانات إيجابية عن عمل الاقتصاد في إيران، بينما على أرض الواقع لا يشعر المواطن هناك بأي انعكاس إيجابي لتلك الإحصائيات والأرقام في حياته، ما يشير إلى وجود قدر كبير من الفساد وعدم العدالة الاجتماعية في بلد تأسس نظامه (ولاية الفقيه) على قاعدة خلافة الإمام الغائب الذي مهمته إقامة دولة العدالة! وبخلاف ذلك، تسقط فلسفة نظرية ولاية الفقيه التي أطاحت الحكم الملكي وأسست لجمهورية إسلامية استبدلت الفقيه بالشاه!
مثالاً، أعلن رئيس هيئة الموازنة داود منظور، أن إيران احتلت المرتبة الثانية عالمياً بمعدل نمو اقتصادي بلغ 5.4%، بينما على أرض الواقع تجاوز سعر الدولار الواحد 60 ألف تومان، ما يعني أن التضخم بلغ مستوى مرتفعاً يتخطى 45%، النسبة التي تتردد في الأوساط الإعلامية والرسمية.
ويبدو أن المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، فطن إلى أن المواطن ملَّ من غياب شعوره بأثر أي إنجازات اقتصادية على حياته، فقام برمي الكرة في ملعب الحكومة، خلال كلمته إلى مسؤولي النظام، الأربعاء 3 نيسان (أبريل)، قائلاً إن "الناس يتوقعون أن تنعكس القرارات والإجراءات التي يتخذها المسؤولون في الشأن الاقتصادي أثراً ملموساً على حياتهم، وهو ما يجب العمل عليه".
لقد خلق وضع الفساد والبيروقراطية في إيران، شكلاً مؤسسياً ومنظماً لإدارة اقتصاد الظل، حيث مساعي التهرب من العقوبات عززت من المحسوبية وغياب التنافسية العادلة، وفتحت الباب لعمليات غسيل الأموال والتهريب، في ظل غياب الارتباط بمؤسسات دولية لمراقبة حركات الأموال، مثل معاهدة مكافحة غسيل الأموال (فاتف).
ولذلك لطالما يستيقظ المواطن الإيراني على أنباء اختلاسات وسرقات تصل إلى مليارات الدولارات في إطار عمليات اقتصادية تمت في الظل، مثل حالة السمسار والملياردير الإيراني بابك زنجاني، المتهم باختلاس 2.8 مليار دولار من وزارة النفط الإيرانية.
وتشير صحيفة "اعتماد" الإيرانية، في عدد السبت 6 نيسان (أبريل) في تقرير، إلى أن حجم البضائع المهربة من إيران وإليها يتراوح بين 12 و25 مليار دولار سنوياً! وهو ما يتم خارج القنوات الرسمية، بينما تشير إحصائية لمنظمة العمل الدولية، إلى أن كل مليار دولار من تجارة التهريب يقضي على 100 ألف فرصة عمل.
ومن هنا، يمكن فهم لماذا لا يجد المواطن الإيراني فرصة للنجاح داخل بلده، وبالتالي يلجأ إلى التفكير في الهجرة إلى الخارج، بينما في الداخل تتضخم ثروات البعض ويواجه آخرون طلقات بنادق حرس الحدود وهم يطاردونهم أثناء عملية التهريب.
اقتصاد التهريب
فرضت العوائق الكبيرة أمام تجارة إيران الخارجية بسبب العقوبات والقيود الداخلية انتعاش تجارة التهريب التي تمثل رافداً مهماً في تغذية الأسواق الإيرانية بالسلع الأجنبية، وكذلك تهريب الوقود وبعض السلع الإيرانية إلى دول الجوار، إذ تقوم مراكب الصيد في مياه الخليج بتهريب الوقود، وتحمل ظهور الدواب عبر المناطق الوعرة، على الحدود مع أفغانستان وباكستان المحروقات المهربة من إيران.
وعلى الحدود مع العراق أو كردستان أو تركيا، تدخل الأجهزة المنزلية والكهربائية والهواتف المحمولة والملابس وغيرها من السلع التي تستنزف النقد الأجنبي إلى إيران.
لكن بسبب القيود والتعقيدات التي تفرضها الحكومة الإيرانية على الواردات أو بسبب العقوبات الغربية، باتت عمليات التهريب الممتدة على طوال الحدود الإيرانية مسألة حيوية لإنعاش الأسواق الإيرانية وتوفير فرص العمال لسكان المدن الحدودية، وإن كان ذلك على حساب الصناعة المحلية.
وقد وجه الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني خلال ولايته الاتهامات إلى الحرس الثوري الذي يتولى عملية مكافحة التهريب براً وبحراً، بالتورط في عمليات التهريب، قائلاً: "كيف يمكن تحقيق النمو الاقتصادي في ظل استمرار عمليات التهريب؟". ويستثمر الجنرالات العسكريون في تلك العمليات التي تتغاضى عنها السلطات في إطار إيجاد اقتصاد ظل يعالج ما عجز عن تحقيقه الاقتصاد الرسمي في إيران.
على أكتاف الحماليّن
لقد انتشرت مهنة الحمّال (كولبر) في المدن الحدودية الإيرانية، وذلك في ظل ارتفاع معدل البطالة والفقر في مناطق مثل كردستان وبلوشستان وكرمانشاه وأذربيجان الغربية، ما جعل تلك المهنة وظيفة أساسية، وهو ما استغله رجال المال الذين يتجنبون دفع الرسوم الجمركية لارتفاع قيمتها، ويقومون بالحصول على بضائعهم القادمة من الصين أو الخليج، عبر إقليم كردستان العراق محملةً على أكتاف الحمالين الفقراء إلى داخل إيران.
ويبدو أن الحكومة الإيرانية فطنت إلى تضخم حجم التجارة التي تدخل من خلال عمليات التهريب عبر الحدود البرية والبحرية، ما دفع البرلمان والحكومة إلى إصدار قانون لتنظيم التجارة الحدودية من خلال الحمّالين والبحارة وإيجاد فرص عمل مستدامة لسكان المدن الحدودية لمعالجة مشكلة التهريب، بينما الهدف الحقيقي من هذا القانون هو تقنين عمليات التهريب وإخضاعها لمراقبة الدولة.
ويدل حجم القتلى والمصابين من الحمالين إلى مدى مساهمة سكان المدن الفقيرة في دعم تجارة الأسواق داخل المدن الغنية في إيران، إذ تشير إحصائية لموقع "كولبر نيوز"، المختص بأخبار الحمالين في مناطق كردستان، إلى مقتل وجرح 2409 حمالين في تلك المناطق طوال الـ13 سنة الماضية، جراء نيران حرس الحدود أو الصقيع أو السقوط من المرتفعات.
بذلك، فإن إيران التي انتفضت خلال ثورة 1979 على حكم الشاه باسم العدالة الاجتماعية واستغلال الطبقة الإقطاعية للعمال والفلاحين والطبقات المحرومة، تعود مرة أخرى بصورة جديدة، فقوة رأس المال والنخبة المقربة من السلطة تستثمر في الوضع المؤسف الذي تعيشه بلادها جراء الفساد والبيروقراطية والعقوبات الغربية، والحمالون يقتلون على منحدرات الجبال الوعرة، بينما أصحاب المال أشخاص مجهولون لا يمكن محاسبتهم.
والأسوأ أن هؤلاء الحمالين يحملون على أكتافهم الأدوات المنزلية التي تملأ المطابخ والهواتف الحديثة التي ترافق أيدي الشباب في إيران، ولا يملكون من ذلك إلا قوت يومهم!