"رئيس الوزراء نتنياهو، لا يمكن للشعب الإيرلندي أن يكون أكثر وضوحاً. لقد صدمتنا أفعالك." هذا ما قاله سايمون هاريس رئيس الوزراء الإيرلندي الجديد في كلمته الرسمية الأولى كزعيم لحزب "فيني غايل" (العائلة الإيرلندية) ليل السبت الماضي والتي رسم فيها الخطوط العريضة لأولويات حكومته. وأضاف، فليكن هناك "وقف إطلاق نار الآن(...) ولتتدفق المساعدات الإغاثية". وإذ شجب هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) وطالب بإطلاق الرهائن الإسرائيليين، فقد دان "الانتقام" الإسرائيلي الذي يؤدي إلى قتل "الأطفال" و "المجاعة". وأكد أن بلاده "مستعدة للاعتراف بدولة فلسطين"، إذ لا بد من "حل الدولتين" لإحلال السلام في المنطقة. وكانت الحكومة السابقة بزعامة ليو فارادكار تنسق من فترة مع مدريد بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية. كما أن مايكل مارتن وزير الخارجية، أعلن أواخر الشهر الماضي، عن نية إيرلندا "التدخل" في القضية التي رفعتها جنوب افريقيا أمام محكمة العدل الدولية بهدف إدانة إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة.
والمجاعة التي يعاني منها أهل غزة، تعزّز تعاطف الإيرلنديين مع فلسطين وشعبها، لأن لها صدى قوياً في تاريخهم. معروف أن ما يقدر بمليون إيرلندي ماتوا خلال مجاعة البطاطا (1843-1852) التي ساهمت بريطانيا المحتلة يومها في تفاقمها. وأدت تلك الكارثة إلى هجرة مليون مواطن آخر، انتهى الأمر بمعظمهم في أميركا، التي يحكمها اليوم أحد أحفادهم.
إلا أن هذا الماضي لم يمنع هاريس من تناول قضية الهجرة بنبرة المتشددين الأوروبيين. فهو أشار إلى ما يشبه الانفلات في التعاطي مع الهجرة وطلبات اللجوء الذي يحتاج إلى "الإدارة" والتقنين. وهذا يعني أن العديد من الأجانب سيتعرضون للطرد فيما لن يسمح لكثيرين أن يأتوا.
وأظهرت استطلاعات رأي أخيرة تفاقم موجة العنصرية التي أدت إلى أحداث دامية في دبلن، وهي تتمدد في أوروبا خصوصاً، حيث تطل برأسها البغيض في دول لم تعرفها منذ عقود، مثل اسبانيا والبرتغال. فقد قال 22 في المئة من المشاركين أن الهجرة هي المسألة التي تهمهم بالدرجة الأولى، فيما لم تزد نسبة من يولون كلاً من الاقتصاد وهيئة الخدمات الصحية، والضرائب، والنقل، والتعليم.. إلخ من الأمور المعيشية الحساسة عن 3 أو 4 في المئة!
وأفرد في خطابه لكل من غزة والهجرة قدراً من الاهتمام لا يقل عما خصصه لإيرلندا الشمالية. وهو قال في مقابلة أخيرة إنه يفضل إعادة توحيد شطري جزيرة إيرلندا بيد أن ذلك "ليس أولوية بالنسبة لي حالياً".
وقد مرت الجزيرة، بأسابيع عاصفة جرّاء خروج زعيمين من الميدان بشكل مفاجئ. كان فارادكار، سبّاقاً إلى الاستقالة، وتلاه جيفري دونالدسون زعيم "الحزب الوحدوي الديمقراطي" أكبر تشكيلات البروتستانت الوحدويين في إيرلندا الشمالية، في ظروف غامضة. وبينما سارع الحزب الوحدوي إلى رصّ الصفوف والسير خلف غافين روبنسون نائب دونالدسون، "عيّن" الحزب هاريس (37 عاماً) زعيماً جديداً وسيصبح في 9 نيسان (أبريل) أصغر رؤساء الحكومة في تاريخ البلاد.
وكانت أسهم الحزب الوحدوي قد تراجعت، ورضي قبل نحو شهرين باستئناف الحكومة المشتركة مع خصمه التقليدي، حزب "شين فين" القومي الذي تسلم رئاستها. وعضّ المتشددون الوحدويون على الجرح وأعربوا عن تأييدهم لروبنسون المعتدل. فهم يدركون أن الضعف أخذ يدب في الحركة الوحدوية عموماً، حتى أن البعض يراهنون على سقوط حزبهم، أو اندماجه مع الحزبين الوحدويين الآخرين. ولم يصبح روبنسون "الزعيم المؤقت" بموجب اقتراع داخلي، بل لأن القواعد الحزبية تقتضي ذلك. وقد يعمد أحدهم إلى تحديه في وقت لاحق.
وبالمثل، تم تعيين هاريس، من دون انتخابات عامة يقول فيها المواطن العادي رأيه بمن سيتسلم مقاليد السلطة على الرغم من نظام الحكم الديموقراطي في البلاد. وهو سار على خطى ريشي سوناك في لندن قبل سنة ونصف السنة تقريباً، إذ فاز بالتزكية بزعامة الحزب الحاكم فصار رئيساً للحكومة بشكل اوتوماتيكي.
يقول خصومه إن الطموح كان علامته الفارقة منذ دخل البرلمان في 2011 فحصل على منصب وزاري بعد ثلاث سنوات وراح يسعى لتحسين موقعه. وشغله الركض وراء المنصب عن اكتساب خبرة حقيقية في الوزارات التي مر فيها بشكل عابر من دون أن يترك أثراً أو إنجازاً، ما جعله كسياسي "فارغاً" إلا من الطموح للزعامة. ولم يكن فاشلاً في هذا الجانب، إذ استطاع في غضون ساعات من إعلان استقالة فارادكار أن يضمن تأييداً كافياً للترشيح بين برلماني حزبه ويقطع الطريق على منافسين محتملين.
ومع أن التعليقات على فوزه بالزعامة بالتزكية تباينت في درجة قسوتها، فهي تكاد تجمع على الإقرار بعدم معرفة رؤيته وأفكاره والأهداف التي يصبو إلى تحقيقها. وبقي الرجل شبه مجهول لأنه لم تكن هناك منافسة تكشف عن برنامج كل مرشح. وعدا عن توصيفه بأنه "مصلحي"، لقبه بعضهم بأنه "رئيس وزراء التيك توك" بسبب اتقانه فنون التواصل واستغلال الوسائط الاجتماعية للتوجه إلى من يستهدفهم.
وإن صحت هذه التعليقات، لقالت الكثير عن الحزب وليس عن زعيمه الجديد. فكيف ينجح سياسي شاب في الوصول إلى القمة من دون معارضة تذكر، إذا كان غير جدير بالتربع عليها؟ وإن كان "فارغا" إلى هذه الدرجة، فكيف تركه قادة الحزب يتولى هذا المنصب ومعه رئاسة الحكومة في فترة متوترة اقتصادياً واجتماعياً من تاريخ إيرلندا؟
بيد أن خطابه الأول أمام مؤتمر الحزب، جاء مثقلاً بالخطط غنياً بالأهداف، فهل بدأت صناعة الزعيم للتو؟ وكانت أبرز محطاته المحلية الإسكان والخدمات الصحية والزراعة، التي يعاني كل منها بطريقته. غير أن الأول بشكل خاص يشكو من نقص حاد، فيما تركت الحكومة الحبل على الغارب لأصحاب البيوت المؤجرة ليرفعوا الإيجار ويطردوا من يتأخر بدفعه ما يؤدي إلى زيادة المشردين بمن فيهم عائلات بكاملها.
استجاب هاريس للرغبة الشعبية الجامحة حين شدد في مقدمة برامجه على وجوب إنقاذ غزة والاعتراف بدولة فلسطين، و"إدارة" الهجرة. كما أن مهاراته التقنية وبراعته في توظيف الوسائط الاجتماعية تقربه من الشباب ذلك القطاع المهم من الناخبين. وسيكون بالإمكان قياس مدى رضى الشعب عنه في غضون شهرين بمناسبة انتخابات البرلمان الأوروبي. لكن الاختبار الحقيقي هو الانتخابات العامة التي يجب أن تجرى في موعد أقصاه أيار (مايو) 2025. وعندها سيتضح ما إذا استطاع الشاب ابن سائق تاكسي، الذي لا يحمل شهادة جامعية، أن يجدد حزبه ويقوده إلى الظفر بمزيد من المقاعد البرلمانية فيبقى في السلطة التي لم يبرحها منذ 2011.