أن يتعرّض برنامج "نور الدين" الذي قدّمه المفتي السابق للديار المصرية الشيخ علي جمعة لانتقادات المسلمين طوال عرضه في شهر رمضان المبارك لهو أمر مفهوم، وهم الذين اتهموه –مجدداً- بـ"تمييع الدين"، ومحاولة إرضاء جميع الأطراف.
ولكن أن تكون "تنازلات" جمعة مصدراً لسخط من هم خارج دائرة الدين الإسلامي أصلاً، فتلك مفارقة تستحق التوقف عندها!
الإسطوانة المفضّلة التي يردّدها اللادينيون والملاحدة العرب على أسماعنا هي أنّ الأديان لا إنسانية، ودموية، وعنيفة، وميسوجينية، وعنصرية، وطبقية، وببساطة، لا تصلح للعصر الحديث، ولن يكون خلاصنا سوى في التخلّي عنها.
ويحدث أحياناً أن يبزغ أمام الشارع الإسلامي شخص مجدد، وغالباً من داخل المؤسسة الدينية، فيحمل إلى العوام فكراً مستنيراً، وفهماً مغايراً للدين، وهمّة في إعمال العقل في النصوص والآيات، وسعياً لإعادة التفكّر في السنّة النبوية، ومصداقية في التعاطي مع التاريخ الإسلامي عموماً بما شابه من فتوحات وخلافات سياسية وانشقاقات وتحوّلات. قد يكون هذا الشخص عدنان إبراهيم ببرنامجه عبر قناة "روتانا"، أو محمد شحرور ببرنامجه المثير للجدل على قناة "أبوظبي" أو علي جمعة أخيراً وهو يستقبل تساؤلات الكبار والصغار على حدّ سواء عبر شاشة "سي بي إس".
وسيعترف أي منصف بأنّ لجمعة العديد من الآراء التي تستدعي الإعجاب بانفتاحه الفكري، وتحرّره من القوالب الجاهزة، مثل طرحه احتمالية أن "يلغي" الله جهنم في الحياة الآخرة، ويشملنا جميعاً بمغفرته. ولِم لا وهو أرحم الراحمين؟
ولكن، مثلما باء بغضب المتدينين والمحافظين، فلا شيء يمكن أن "يشفع" لجمعة لدى فئة من الملاحدة واللادينيين العرب، والذين شنّوا هجوماً ضارياً على ما اعتبروه "ترقيعاً" للدين الإسلامي من جانبه، و"تجميلاً" لتشوهاته –كما يرونها-.
لنكن واضحين، إنّ بعض مدّعي العقلانية هؤلاء لا يكترثون بتاتاً، وعلى الرغم من انعتاقهم المزعوم من الأديان، بمعاناة ملايين المسلمين مع الفتاوى المتشدّدة، والفهم المتعسر للشريعة، ولا هم يتعاطفون، وهم من يصدّعون رؤوسنا بإنسانيتهم ورقيهم، مع حيرة المؤمن المعاصر ما بين رغبته في الالتزام الديني، وما بين تعارض بعض الممارسات مع ذائقته وأخلاقه. إنّهم يفضّلون أن يحتفظ أولئك الأطفال الذين شاركوا في "نور الدين" بأسئلتهم الوجودية الشائكة، وأن تنمو معهم شكوكهم ومخاوفهم، أو أن يلجأوا إلى رجل دين "تقليدي" لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، على أن يجدوا من يطمئنهم بإجابة عقلانية كما فعل علي جمعة.
والهدف، ممن يدّعون أنّهم قد "تجاوزوا" تنشئتهم الدينية، وطووا صفحتها إلى غير ما رجعة، هو أن تبقى الأديان التي يكرهون ويعادون كيفما هي، فتؤكّد للعالم أسباب كرههم ومعاداتهم لها، وكأنما يحتاجون أصلاً إلى تعليل لإلحادهم أو لادينيتهم. إنّ تلك النزعة الأنانية أهم بكثير لديهم من المطلب الملّح لتجديد الأديان، أو حتى "ترقيعها" –كما يقولون- وتحقيق السلام والراحة للملايين من معتنقيها.
ولله في خلقه شؤون...