النهار

ماذا سيفعل نتنياهو يوم لا يأتي "غودو" الأميركي؟
سمير التقي
المصدر: النهار العربي
مثل طبيب كاد يقتل مريضه بالمسكنات والكورتيزون يتغافل نتنياهو عن العلّة والسبب في مأزق إسرائيل الوجودي.
ماذا سيفعل نتنياهو يوم لا يأتي "غودو" الأميركي؟
نتنياهو
A+   A-


مثل طبيب كاد يقتل مريضه بالمسكنات والكورتيزون يتغافل نتنياهو عن العلّة والسبب في مأزق إسرائيل الوجودي
 
يصف صموئيل بيكيت في مسرحيته "في انتظار غودو" شخصيتين تنتظران بيأس قدوم المنقذ المنتظر "غودو"، ليخلصهما من عزلتهما. كذلك يعالج نتنياهو عزلته، مفترضاً انّ الولايات المتحدة ستبقى دوماً في جيبه! 
 
اما انا فأزعم، انّه رغم ما يلفح منطقتنا من ضباب، صارت إسرائيل، بسياستها الراهنة، عبئاً على الولايات المتحدة، لكن قصر نظر نتنياهو لا يسمح له برؤية ذلك. 
 
فمن خلال رفضه المنهجي لعملية السلام، وإحجامه حتى عن تحديد حدود إسرائيل الدائمة، وسعيه للبقاء خارج هذا "الإقليم العاثر"، واكتفائه بعلاقات ميركانتيلية نفعية وعابرة معه، وافتراضه "التفوق المطلق" أبداً لإسرائيل، بحيث يكسر رأس الجميع،
فمن خلال كل ذلك يُبقي نتنياهو المنطقة بأسرها على صفيح ساخن! بل بصفيح ساخن تحته داخل إسرائيل، واثقاً بقدوم "غودو" الأميركي، كلما يجدّ الجدّ. 

لكن ما ينفجر في وجه نتنياهو الآن، هو ركام تاريخي من العِقَد والتناقضات في سياساته. 
ففي حين يقول انّه يسعى لأن تعزز إسرائيل نموذجها، يسعى لإلغاء استقلالية القضاء. وفيما يدّعي انّه يريد تعزيز الأمن الداخلي، يعمّق التفرقة ضدّ عرب 48. وفيما يرفض حل الدولتين، وحل الدولة الواحدة بالطبع، ويراهن على المزيد من خداع الإقليم، يجد نفسه غير قادر على فرض التهجير القسري. وفيما يرفض الاتفاق النووي، فليست لديه أي فكرة عن بديل لذلك. فحتى الحرب لن تخوضها إسرائيل من دون أميركا، وهو يعرف انّها لن تفعل. وفيما يتكتك نتنياهو "لقص العشب" الإيراني، فإنّه يحتفظ بدور إيران كـ"عدو قاتل"، فلعله يظن أنّ العرب يشترون ما يزعمه من سعيه لتصفية سيطرة إيران الإقليمية؟ 

يستحق هنا السؤال: ماذا لو لم يأتِ غودو الأميركي في لحظة الجدّ؟ ماذا لو تلكأت؟ فبعد ان ثُقب "التفوق المطلق"، وبعد فشل الترانسفير يصبح قدوم "غودو" امراً وجودياً. 
 
سبق لنتنياهو أن عبّر عن هذا اللامنطق 2011 في روما بـ"إنّه لا يوجد حل للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني". وتحدث في نقاش في الكنيست عن الربيع العربي: "دعوهم يقتلون بعضهم بعضاً"، لذلك فإنّه مثل الكثيرين من أترابه، يتعيش على العقلية الأمنية الاستخبارية أداة وحيدة للبقاء! 
 
ماذا سيفعل نتنياهو في عالم ما بعد أميركا؟ ماذا سيفعل بعد غزوة غزة؟ هل سيبني المزيد من الأسوار؟ ويشتري الطائرات بعشرات المليارات؟ ثم، هل سيبحث عن بدلاء لأميركا في عالم منقسم؟ وإذ يدير نتنياهو ظهره للعرب ويرفض بصلف رؤيتهم لمستقبل الإقليم، فسيجد نفسه كمن يصل الى الملعب بعد نهاية المباراة وانفضاض الجمهور وإطفاء الأنوار والكاميرات. بل إنني متشوق بعد غزوة غزة، لأن أعرف ما تعلّمه نتنياهو من لعبة البوكر الروسية مع بوتين.   
 
الآن، ورغم قدوم "غودو"، لا يبدو انّ قدومه يشفي غليل نتنياهو! فلقد فشل في فرض الترانسفير، وصارت يداه مقيّدتين في توسيع الحرب نحو لبنان. ولا أفق علمياً لسياسته المسدودة والمثقوبة. 
 
بغض النظر عن كل ذلك، وبغض النظر عن انحياز بايدن، تكمن لوثة نتنياهو في أنّه لم يلتقط مغزى التحولات الأميركية العميقة، كما لم يلتقط مخاطر أن يرهن مستقبله على نفوذ اللوبي المناصر لإسرائيل في أميركا، فتلك عوامل عابرة لا تُبنى عليها الاستراتيجيات. 
 
لم يلاحظ نتنياهو مغزى خوض أميركا أربع حروب في الإقليم، وهي تسعى جهدها لأن لا تتدخّل إسرائيل فيه بشكل واسع. لم يلتقط مؤشرات دعم مراكز القرار الأميركية تهدئة الإقليم، ولا دعمها الاتفاق النووي، ولا مغزى الانسحاب من أفغانستان والخليج، ولا مغزى التحضير للانسحاب من العراق. لم يلتقط مغزى تحول مزاج حلفائه الجمهوريين لكبح تحالفات أميركا مع المانيا وفرنسا، بل ومع أوروبا بالنسبة إلى إسرائيل مستقبلاً. لم يفهم نتنياهو انّ عقدة العراق وأفغانستان في أميركا صارت جرحاً عميقاً لن تحركه، ما لم تهدّد هي وأرضها مباشرة وبالذات. 
 
لكن أهم ما لم يلتقطه نتنياهو، هو التحولات العميقة في المجتمع الأميركي. إذ ينزاح جيل الشباب ليصبح أكثر حساسية تجاه قيم العدالة والمساواة والسلام في ما يشبه قطيعة أوروبا الستينات من القرن الماضي مع المرحلة الاستعمارية. 
بل، لعلي لا أبالغ إذ أتوقع، ان يكون بايدن آخر الرؤساء الأميركيين الذين لا تشوب صفحتهم الإسرائيلية أي شائبة. 
 
والآن، أزعم أنّ الإدارة الاميركية إذ تتحدث عن حل الدولتين، فإنّها لا تفعل ذلك كرامة للعرب أو الفلسطينيين، لكنها لم تعد ترغب في أن تكون رجل المطافئ الدائم للإقليم، تستحضره إسرائيل لترقيع ما نخرته بغطرستها تلبية للأوهام الكهنوتية للمتعصبين الدينيين. 
 
لذلك، بعد أن أهملت طويلاً عملية السلام والمبادرة العربية، تجد أميركا نفسها في هذه الأزمة مجبرة على طرح حل الدولتين، في سياق تنافسها في عالم متعدد الأقطاب. 
 
نعم، بغياب سياسة للسلام، تصبح كل حروب إسرائيل حروب وجود، بل تصير إسرائيل عبئاً دائماً على الولايات المتحدة، ومصدر هدر وتشتيت لقدراتها المشدودة أصلاً في صراعات دولية محتدمة. 
 
في نهاية الأمر، تستطيع أميركا أن تعيش جيداً، من دون سلام بين إسرائيل والعرب، ومن دون اتفاق نووي مع إيران. فهل تحضّر إسرائيل لفطام وشيك عن الحضن الأميركي؟ وإذ يتظاهر نتنياهو أمام الإسرائيليين بأنّه "سيّد الأمن"، فإنّه يفقد كل رهاناته، الواحد بعد الآخر، ليجد نفسه يرقص منفرداً، فيما يتلكأ "غودو" عن الدخول للملعب. 
 
لا تملك اسرائيل هذا الترف، لذلك، فمن وجهة النظر التاريخية، بل من الوجهة الأميركية والدولية، لن تتمكن إسرائيل من البقاء، من دون ان تندمج في الإقليم، ولا سبيل لذلك الّا بحلّ الدولتين. 
 
يقول داروين: "ليس البقاء للأقوى ولا للأذكى، بل لمن يمتلك القدرة الأكبر على التكيّف". لذلك فسيكون من سخرية الأقدار، أن نلاحظ انّ قوة الكثير من شعوب الإقليم تكمن في ضعفها ومن كونها لا تملك ترف الاستراتيجيات الكبرى، لكن هذه الشعوب تتكيّف رغم ضعفها لكونها منغمسة في الإقليم حتى النخاع، كـ"ملح الأرض"! لذلك نراها تخسر الحروب، ويمرّ فيها الغزاة عابرين ثم... يذهبون وتبقى هذه الشعوب. وإذ يبقى السؤال ماذا لو لم يأتِ "غودو"؟ تتحدث مصادر "إسرائيلية رفيعة" عن "إصابة الأميركيين بالعمى تجاه مصالح إسرائيل"، فيا لها من ميلودراما بائسة وساخرة. 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium