يبدو أن باكستان بتركيبتها السياسية الجديدة وأحزابها التقليدية تسعى للحفاظ على معادلتها الداخلية، للحفاظ على توازناتها الخارجية!
فبقاء رئيس الوزراء محمد شهباز شريف من حزب الرابطة الإسلامية (فرع نواز) في السلطة وانتخاب الرئيس الأسبق آصف زرداري، من حزب الشعب، رئيساً للبلاد، وفوز رئيس الوزراء الأسبق سيد يوسف رضا جيلاني، من حزب الشعب، بمنصب رئيس مجلس الشيوخ، وتعيين سيد آل ناصر خان من حزب الرابطة الإسلامية (فرع نواز)، نائباً له، يعني أن باكستان بلد لا يزال يدار بمعادلة داخلية ثابتة، بينما هناك تحولات خارجية إقليمية تجري حوله.
معادلة الجيش الداخلية
في باكستان لا تصل حكومة إلى نهاية ولايتها، والسبب يرجع إلى طبيعة السياسة الداخلية لهذا البلد التي تعتمد اعتماداً مفرطاً على "الشعبوية" التي تمثل أفيوناً لأنصار الأحزاب السياسية، بل حتى للجماعات الدينية، فقد شهدت باكستان نمطاً متكرراً من التدخل العسكري، أو بشكل أنعم عن طريق تدخل القضاء أو البرلمان إذا كانت هناك إرادة من جانب الجيش لإطاحة حكومة، بما جعل المواطن هناك ينظر إلى الجيش باعتباره المنقذ الوحيد للأمة وأن المدنيين غير قادرين على تشكيل حكومة مستقرة وفعالة في إدارة شؤون تلك الدولة.
وقد تعزز هذا الشعور في ظل القومية الإسلامية التي تشكلت عليها جمهورية باكستان الإسلامية، إلى جانب العداء مع جارتها الهند وشعارات العداء للغرب.
لقد نجح الجيش في فرض معادلة "النفوذ في عملية صنع القرار"، وأن أي حكومة قادمة عليها أن تستجيب لهذه المعادلة وإلا ستواجه مصير الحكومات السابقة، مثلما حدث مع حكومة رئيس الوزراء السابق عمران خان (حزب حركة إنصاف)، ما يعني الحفاظ على ضعف النظام السياسي والمدني، حتى يحافظ الجيش على "مبدأ الضرورة"، من أجل فرض الحلول السياسية وإعادة الاستقرار إلى البلاد.
ويمكن فهم أن التحولات السياسية داخل باكستان هي في النهاية رد فعل للطبيعة العسكرية التي تحكم هذا البلد، مثلما لاحظنا دعوات إلى عزل الجيش عن الحياة السياسية، أو وجدنا بيوتاً سياسية ثابتة في المشهد السياسي تتحرك على قواعد ممزوجة بين المكونات القومية والسياسية، تتبادل فيها المرأة والرجل الأدوار السياسية؛ المهم هو عدم خروجها على القواعد التي تفرضها المؤسسة العسكرية لإدارة اللعبة السياسية، بشكل بات فيه الجيش شريكاً في السياسة والاقتصاد، يتمتع هو بالاستقلالية، بينما السلطة المدنية محرومة من ذلك.
سياسة خارجية أمنية
هذه الاستقلالية التي يتمتع بها الجيش في باكستان جعلته يخص لنفسه توجيه السياسة الخارجية، ولكن في إطار التوازنات الأمنية أكثر منها في إطار المصالح والرؤى الجديدة في إدارة العلاقات الخارجية، وهو ما جعل باكستان دائماً على خط المواجهة، فقد حافظت على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأميركية التي هي حليف عدوتها الهند، وتتحكم هذه العلاقة بسياستها الخارجية تحكماً واسعاً تجاه قوى مجاورة مثل الصين أو إيران أو تركيا أو السعودية.
وتدرك القوى الأجنبية تماماً طبيعة التركيبة السياسية لباكستان، ولذلك هي تذهب مباشرة إلى علاقة مع المؤسسة العسكرية أو إلى الحكومة المقبولة منها، فباكستان اتخذت طابع الدولة الأمنية بدلاً من مسار التحول الديموقراطي أو الدولة التنموية الحديثة، وهو ما ساهم في تشكيل تركيبتها الاجتماعية والسياسية والفكرية في إطار المخاوف الأمنية والتحديات القومية، أكثر من البحث عن المفاهيم الحديثة للدولة والتنمية.
ولا تزال القوى الخارجية تنظر إلى باكستان بوصفها قوة أمنية أكثر منها اقتصادية، لكن هذه القوى تراقب أيضاً تحولات الداخل، وتدرك أن معادلة الجيش - القضاء - البرلمان، لن تستمر طوال الوقت، إذ هناك أجيال جديدة فطنت إلى اللعبة السياسية الدائرة وتتمتع بأفكار جديدة، ما يشير إلى إمكان أن تواجه باكستان يوماً انقلابات عسكرية بحثاً عن التحديث والحياة الجديدة.
معادلة طالبان-الإرهاب
إن استمرار الاضطرابات والنزاعات داخل باكستان يدل إلى أن السياسة التي فرضتها المعادلة الداخلية ما زالت غير قادرة على تحقيق الاستقرار، وإن كانت هذه الدولة تتمتع بالحكومات الفدرالية المحلية، وهو أمر تقدمي ومرن، لكنها تواجه تحديات أمنية جمة خلال هذه الأيام في ولايات خيبر باختونخوا وبلوشستان التي تنتشر فيها التنظيمات الإرهابية والانفصالية، التي منها داعش - خراسان وطالبان - باكستان وجيش تحرير بلوشستان.
فقد بدأت تعود إلى شاشات التلفاز الأخبار التي تدور حول عمليات انتحارية وهجومية تطال المدنيين في تلك الولايات، بينما كانت تلك العمليات تتركز لفترة على مهاجمة قوات الجيش والشرطة، لكن يبدو أن العمليات العسكرية التي يقودها الجيش في تلك المناطق الحدودية مع أفغانستان، على خلفية توتر العلاقة مع حركة طالبان-أفغانستان الحاكمة في كابول؛ انعكست سلباً على الداخل الباكستاني.
لا تزال إسلام آباد تريد فرض رؤيتها الأمنية التقليدية التي اعتادت عليها في التعامل مع الحكومة الموجودة في كابول، بينما "طالبان" أمس التي كانت تعتمد على الاستخبارات الباكستانية، لم تعد "طالبان" اليوم التي لديها علاقات تتجاوز دول الجوار، وأعداء الأمس باتوا بالنسبة لها أصدقاء اليوم، مثل إيران وروسيا والصين.
فجهود الأمم المتحدة خلال اجتماع الدوحة، 18 و19 شباط (فبراير) الماضي، لتعيين ممثل خاص للأمم المتحدة في أفغانستان وتشكيل مجموعة اتصال إقليمية بشأن أفغانستان، باءت بالفشل بسبب رفض باكستان مشاركة الهند في تشكيل مثل هذه المجموعة، إذ لديها مخاوف أمنية من الدور الهندي في أفغانستان.
وإذا نظرنا إلى اجتماع مستشاري الأمن القومي للدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون، لمناقشة ملف الإرهاب، في العاصمة الكازاخستانية أستانا، يوم 3 نيسان (أبريل) الجاري، فإن إسلام آباد سعت خلال هذا الاجتماع إلى تحويل ملف حركة طالبان - باكستان الانفصالية إلى جماعة إرهابية لا فرق بينها وبين تنظيم "داعش"، إذ كلاهما يسعى لكسب الأراضي التي يسيطر عليها لإعلان دولته.
وهدف إسلام آباد من ذلك، هو ممارسة الضغط على حكومة طالبان في كابول التي تتهمها بتقديم الدعم لطالبان - باكستان ولديها طموحات للتوسع إلى خارج الأراضي الأفغانية في مناطق القبائل البشتونية الحدودية داخل باكستان.
ولذلك تأتي عمليات التفتيش الصارمة تجاه اللاجئين الأفغان في مدن باكستانية كبرى مثل كراتشي، وكذلك فرض القيود الاقتصادية والتجارية على أفغانستان، من أجل أن تستجيب حركة طالبان - أفغانستان للوقوف بجانب إسلام آباد في حربها ضد طالبان-باكستان، وهو أمر غير مقبول من الناحية الأيديولوجية أو السياسية بالنسبة إلى طالبان الأفغانية.
معادلة العداء مع الهند
لا تزال معادلة العداء مع الهند هي الفاعل الرئيس في إدارة سلوك باكستان الخارجي، فطهران وإسلام آباد اللتان تبادلتا القصف الصاروخي على منطقة بلوشستان في 17 و18 كانون الثاني (يناير) الماضي، تبحثان الآن عن تعزيز العلاقات وتوسيعها، وذلك خشيةً من باكستان من أن تواجه عزلة خارجية أمام الهند، إذ تفيد التقارير الإخبارية من باكستان بأن الرئيس الباكستاني دعا نظيره الإيراني إلى زيارة إسلام آباد، لمدة 3 أيام في الفترة من 22 إلى 24 نيسان (أبريل) الجاري.
ويبدو أن إسلام آباد خلال هذه الزيارة تريد تجديد تعهداتها باستكمال الجزء الباكستاني من خط أنابيب استيراد الغاز الطبيعي من إيران، المتوقف منذ 10 سنوات، وذلك تجنباً لدفعها غرامة أمام التحكيم الدولي بمبلغ 18 مليار دولار، ولذلك هي ستعمل على إقناع حليفتها واشنطن بالموافقة على إتمام هذا المشروع، لا سيما أن طهران تواجه عقوبات غربية.
يأتي هذا السلوك في السياسة الخارجية، بينما الأولى أن تسعى باكستان مع جارتها الهند إلى إيجاد صيغة إقليمية جديدة لإعادة الهدوء إلى منطقة جنوب آسيا التي هي نقطة جذب للتدخل الخارجي بسبب استمرار الاضطرابات فيها.
والمحصلة، أن معادلة "الدولة الأمنية" تتحكم بالسياسة الخارجية لباكستان، لدرجة أنها تقوم بتعزيز علاقاتها في منطقة جنوب القوقاز، وذلك بتقاربها مع جمهورية أذربيجان، اذ تعتزم تزويدها بصفقة من المقاتلات الصينية-الباكستانية "جي إف 17 ثاندر"، وذلك في إطار المنافسة مع الهند التي تتعاون مع أرمينيا عدو أذربيجان، في مجال التقنية العسكرية.
وبذلك، فإن الوجود في تلك المنطقة الى جانب أذربيجان التي تدعمها كل من تركيا وإسرائيل، يضع الدولة الباكستانية في معادلة غريبة، فرضتها عليها مساعي إرضائها للقوى الأجنبية الحليفة مع الجيش، ومنها الولايات المتحدة الأميركية.