عندما يُشفى العراقيون من عقدة اسمها مقتدى الصدر يكون في إمكانهم أن يتحرروا من رمزية كبّلتهم بقصر النظر الذي مزج عليهم الحقيقة بالوهم. حقيقة خصوماته الشيعية ووهم ولائه للوطن. فالرجل الذي دخل إلى العملية السياسية التي أقامها الأميركيون بعد احتلال العراق من باب مناكفة أعداء أبيه، تحول إلى وسيلة لتمرير الوقت يتسلى بها كثيرون من أجل حرف النظر عن المشكلات العميقة التي يعانيها العراق، ومنها مشكلة نظامه السياسي.
وكلما سعى الصدر إلى تحديث مشروعه زادت فرص النظام السياسي في الهروب من مواجهة استحقاقات الحكم، فلم يعد نافعاً اليوم الحديث عن مشروع وطني بمنطلقات نظرية طائفية. تلك محاولة تصب في خدمة النظام وتهبه شرعية، سيكون دائماً في حاجة إليها في ظل انكفائه على أدواته الحزبية التي وضعته في خدمتها. فرغم أن الصدر كان ولا يزال يسعى إلى تكريس صفته معارضاً، غير أن تلك المعارضة لم تبن على أساس اختلاف جوهري في المبادئ، بل هي مجرد انعكاس شكلاني لصراع هو جزء من الإرث الشخصي الذي لا علاقة له بأي منظور وطني. الصدر هو ابن علاقة إشكالية داخل المؤسسة الدينية الشيعية، ولم تكن شعبيته بين الفقراء إلا ثمرة إشفاق وتعاطف مع أبيه الذي يُعتقد أنه ظُلم مرتين. مرة حين عزلته المؤسسة الدينية الرسمية ومرة حين اغتيل مع ولديه بطريقة مبهمة. لقد استفاد الصدر من حكاية اليتيم العالق بيتمه ولم يتحرر منه.
طموحات سياسية وشخصية قلقة
واحدة من أهم مشكلات الصدر وأكثرها تعقيداً تكمن في كونه رجل دين ركب القارب السياسي لأسباب لا علاقة لها بالسياسة. في عام 2003 وفي خضم الفوضى التي حدثت بسبب الغزو الأميركي وسقوط نظام صدام حسين، تقدم البعض من عراقيي الداخل للمشاركة في العملية السياسية التي نظمتها السلطة المدنية للاحتلال لتكون نواة لقيام النظام الجديد. لم ينجح أحد من عراقيي الداخل في التسلل إلى العملية السياسية التي ظلت حكراً على عراقيي الخارج الذين سبق لهم أن عبروا عن حماستهم لمشروع الاحتلال. لم يكن الصدر واحداً من أولئك المتقدمين بل كان زعيماً لميليشيا طائفية تُدعى "جيش المهدي" ارتبط ظهورها أول مرة باغتيال رجل الدين عبد المجيد الخوئي الذي يُشك أن استخبارات دولة كبرى قامت باغتياله لتمنع بريطانيا من التسلل إلى المشهد السياسي العراقي من خلاله، ومن ثم أُلقيت المسؤولية على الصدر الذي لم ينفها. وبعد عام من الاحتلال اقتحمت القوات الأميركية النجف بغية القضاء على "جيش المهدي". وهي المعركة التي كان موقف المؤسسة الدينية الرسمية واضحاً منها من خلال سفر زعيمها علي السيستاني إلى لندن بحجة العلاج. غير أن الموقف السلبي من الصدر وجيشه سرعان ما تغير بعد المشاركة الواسعة لـ"جيش المهدي" في العمليات القذرة التي كانت جزءاً من الحرب الأهلية بين عامي 2006 و2008. حينئذ سُمح للصدر بأن يكون جزءاً أصيلاً من تركيبة النظام. غير أن ذلك التحول لم يؤطر شخصية الصدر بصفات رجل السياسة. فمثلما فشلت ثياب رجل الدين في إضفاء صفة دينية على شخصيته، فشلت كل الامتيازات التي حصل عليها في دولة المحاصصة في الارتقاء به من زعيم ميليشيا إلى رجل دولة.
الأمر سيان إن غاب وإن حضر
"التيار الوطني الشيعي" هو آخر منتجات المعمل النظري الصدري. وكما أتوقع فإن الرجل الذي عُرف بانقلاباته على خصومه ومناصريه على حد سواء، يجد في السخرية نوعاً من القوت السياسي. لربما كانت الفكاهة من طبعه. ولأنه يدرك أن الآخرين ينتظرون مفاجآته إن غاب وإن حضر، فإنه قد يرى في ما يبتكره عجيناً لاختلافات كارهيه ومحبيه على حد سواء. سبق للصدر أن أقام خياماً عديدة. في واحدة منها ضم الشيوعيين إلى تياره. وللشيوعيين النصيب الأكبر من الخسارات في الحياة السياسية في العراق. غير أن اللافت في كل المراحل أن الصدر لا يطرح برنامجاً سياسياً بل يكتفي بالعنوان باعتباره كفيلاً لإيصال الفكرة. لسنوات طويلة ظلت وزارات خدمية مهمة مثل الكهرباء والصحة حكراً على التيار الصدري، غير أن تلك الوزارات كانت دائماً هي الأكثر فساداً. غير مرة اعترف الصدر بأن تياره فاسد. ولكن لا معنى محدد للفساد في القاموس الصدري. ذلك لأن إمبراطورية الصدر، وهو ملك غير متوج، قائمة أصلاً على فساد المحاصصة. فالصدر لم يخسر شيئاً من حصته في ثروة العراق حتى بعد انسحابه من العملية السياسية. لذلك فإن عودة السيد إلى مواجهة خصومه تحت مظلة جديدة لا تمثل تغييراً في المعادلة القائمة. فالسيد ذهب كما لو أنه لم يذهب وعاد كما لو أنه لم يعد.
كان ماهراً في محو بصماته
دائماً كان الصدر يُخيف خصومه بفوضاه. يكرهه المقيمون في المنطقة الخضراء ويكرههم. غير أن الطرفين يعتنقان المذهب نفسه. لا أقصد المذهب الديني بل المذهب السياسي. وهما لا يختلفان على مسألة استمرار النظام الطائفي. بالنسبة إلى الصدر فإن ذلك النظام هو سبب وجوده. ما كان في إمكان مقتدى أن يكون موجوداً لولا النظام الطائفي. بعنوانه الجديد يدافع الصدر عن طائفيته. فتياره وطني غير أنه شيعي في الأصل والبنية. كل العناوين الوطنية لم تعبر بالصدر من خندقه الطائفي الضيق. فالمشكلة أكبر من أن يستوعبها ويتفاعل معها وهو الموزع بين تجربتي رجل الدين غير المعترف بكفاءته الفقهية، ورجل السياسة الفوضوي الذي كان ماهراً في محو بصماته بحيث لم تترك انسحاباته المتكررة أي أثر سلبي على النظام السياسي.