في تراثنا الحمصي، طرفة عن يوم قرّر أهل حمص قصف مدينة حماة، فجاؤوا بأطنان البارود، وصبّوها بجذع شجرة، وأشعلوها، فانفجر الجذع، وقُتل من قُتل من الحماصنة، ليعلّق زعيمهم "إذا كان هذا ما أصابنا، فما بالكم بما أصاب أهل حماة".
خطرت لي الطرفة الحمصية، وأنا أتفرج على محطات "جبهة المقاومة"، تنقل زئير المسيّرات والصواريخ الإيرانية، وتساءلت عمّا سينجم عن هذا الزئير في إسرائيل. الحقيقة أنّ مئات المسيّرات وعشرات الصواريخ تكسّرت، مثل رماح دونكيشوت، على أجنحة طواحين عصر مختلف تماماً! بل أكّدت خيبة الضربة، على ما يردّده الخبراء العسكريون الغربيون دوماً عن تخلّف القدرات الإيرانية، حتى عن معارف نهاية القرن الماضي.
فما هو هدف الضربة العتيدة؟
لو كان الردع هدفها، لكانت أوضحت الضربة بجلاء، ولو نظرياً، قدرة إيران على إلحاق أذى جدّياً بإسرائيل، لقاء استباحتها حياة كبار الضباط وسيادة إيران. فبعد أن صارت المسيّرات الإسرائيلية تدخل من نافذة السيارة، كان يُفترض بالردع الإيراني، ان يُظهر القدرة على استهداف حديقة لمحطة كهرباء، او كشك محطة سكك للحديد، او حتى درّاجة. لكن، فيما يذكّرنا بمشاهد 2006، كان جلّ ما أصابته شظايا الصواريخ الإيرانية الطائشة، طفلة من عرب 1948.
وبعد ان شمّر دهاقنة التخطيط الاستراتيجي الإيراني عن زنودهم يطبلون بـ"وحدة الساحات"، وروجوا لذعر الأميركيين والإسرائيليين، يترجون الوسطاء ألّا تقسو إيران بضربتها على إسرائيل، جاءت الضربة الإيرانية لحظة صَدّامِّية بامتياز. بل كانت أقل تشويقاً بكثير من مباراة ودية بين إسرائيل وإيران.
لا تقف حسبة الخسارة الإيرانية عند خسارة الصورة. فمثلما انكشف الملك الروسي عارياً، في غزوته الأوكرانية، ليتمّ تقزيم أهدافه "العظمى"، إلى مجرد احتلال أطلال لا تضيف لعمق روسيا الاستراتيجي شيئاً، كذلك تقزمت ممكنات الأهداف الإيرانية.
لم تكشف الضربة، الهوة العلمية والتقنية بين إيران والغرب، فحسب، بل انكشفت العيوب الاستراتيجية والسياسية أيضاً. فحتى جو بايدن، ما عاد قادراً أن ينكر ارتباط إيران بالفوضى والجرائم في الإقليم.
إذاً، خسرت إيران الردع العسكري، وخسرت معه الردع الاستراتيجي. لكنها فقدت أيضاً ردع "حرب التحرير الشعبية" التي عملت عليها طويلاً. فلقد كانت تنتصر في غزواتها على سفينة في الخليج العربي، او في قتل مئات السوريين واليمنيين واللبنانيين العزل. لكن عندما جدّ الجد، وضربت "الشيطان الأصغر" الحرس الثوري، تلك "النواة الصلبة لمحور المقاومة"، صار هذا الحرس نمراً من ورق.
بل، وبسبب تفكّك قدراتهم وفشلهم في دعمها، خسرت إيران ردع أذرعها أيضاً! ورغم تضافرهم ببعض الألعاب النارية، فضح الهجوم شقوقاً موضوعية في “حلف الممانعة”. وفيما كان رئيس الوزراء العراقي يتلقّى الدعم العسكري في واشنطن، تذرّعت بعض أذرعها، بعدم الرغبة في إحراجه.
أما الشرخ الأخطر، فكان مع روسيا. فمثل "زوج الاثنتين"، غاب الحليف الروسي المنتظر، رغم ما لديه من “إس 400″، و”إس 300 المطورة”. بل اتصل رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، بنظيره الإسرائيلي، ليطمئنه أنّ منظومات الدفاع الصاروخي الروسية ستبقى عمياء، ولينسق معه مقايضة ذلك، لعل إسرائيل تقابل روسيا بالمثل في أوكرانيا.
وكان الأنكى، موقف النظام السوري! إذ تتحدث أوساط مقرّبة من النظام السوري، إنّه، بعد أن تموضعت القوات الروسية كقوة عازلة في الجولان، لتُطمئن حاكم دمشق، وتَدرأ عنه تداعيات التصعيد، نسّق بشار الأسد مع موسكو كي يتلطّى جانباً عن التورط، ولو ببعض الألعاب النارية. بل أباح "سيادته" على الأجواء السورية، لكل عابر من الإيرانيين والإسرائيليين والأميركان وغيرهم كثر.
فوق ذلك تخسر إيران ترف الإنكار، وميزة التلطّي للإيذاء من دون أن تؤذى.
فبعد ان استثمرت طهران بلعبة الميليشيات، ومتعة النخر في دول الجوار لتفكيكها من دون أن تضطر للاشتباك المباشر، لا مع إسرائيل وبالطبع لا مع أميركا، ها هي تضطر الآن، للانتقال إلى ساحة لم تستعد لها ولا ترتاح فيها.
داخلياً، وكما الأمر في روسيا، كانت الصفقة النفعية الدائمة بين القيادة الإيرانية والمجتمع الإيراني، أن "اذهب انت وربك فقاتلا". لكن لا تُحضر حروبك الينا". لكن هذه الصفقة تشققت بمقتل سليماني، ثم تمزقت بمقتل زاهدي، كقائد للحرس الثوري، ليصير النزال مباشراً، نداً لند، ودولة لدولة، ورجلاً لرجل.
انّها لحظة حقيقة لطالما استماتت إيران في التهرّب منها. وكما يقول "همنغواي" على لسان بطل قصته "الشمس تشرق أيضاً"، "لقد كذبت طوال الوقت، لكنني صدّقت، وهذا جعل كل شيء يبدو على ما يرام".
الخسارة الاستراتيجية الأكبر لإيران، كانت بإحضار الدب إلى الكرم، كل الكرم. إذ لم يحضر "الشيطان الأكبر" لدرء مخاطر الصراع، فحسب، بل ومن اجل إعادة رسم المصالح الاستراتيجية الأميركية والغربية في الإقليم لعقود مقبلة. فعلى عكس حلفاء "محور المقاومة"، فوجئت إيران بسرعة تلاحم خصومها الإقليميين والدوليين، فعلاً لا قولاً.
تتمنى إيران عودة عقارب الساعة في الإقليم لتفاوض الغرب على الملف النووي وغيره. لكن، هذا الملف لم يعد له أي مغزى عملي طالما أنّه ليس هناك أحمق آخر في الغرب، سيغامر يوماً باحتلال إيران. في نهاية الأمر، رغم الآلاف من قنابله، لم يسقط الإتحاد السوفياتي بالضربة القاضية، بل سقط بالصدأ وبعدد الجولات.
لذلك، تعرض إيران على الأميركيين، إعادة بناء توافقات جديدة لتوزيع النفوذ في الإقليم، وهي تريد ترتيبات لإعادة توطيد نفوذها، شريطة استبعاد العرب. وتلك لوثة أخرى في ذلك العقل الهرم ولأسباب عدة:
أولها، إنّ ما انكسر في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 هو بالضبط تلك الثقة التي أسستها إيران طويلاً بصدقية التوافقات الأمنية بين ضباطها ودبلوماسييها الكبار، وبين نظرائهم الغربيين والإسرائيليين.
ثانياً، إنّ ما لا تدركه إيران هو حقيقة أن ليس في الإمكان الآن، ادارة الظهر للعرب. فلقد تغيّرت قواعد اللعبة، وما من أحد سيرهن أمن الإقليم بشلة ميليشيات متفلتة، كما في السابق. بل سيستمر عصر إيران وميليشياتها، وسيستمر حتماً ضرب قيادات ومقدرات الحرس الثوري.
وإذ تستعد إيران اليوم لحزم متتالية مقبلة من العقوبات والحصار، تتجاوز عقوبات ملفها النووي، ليضع امر أذرعها ومغامراتها على الطاولة، تستغل إدارة بايدن هذا الهجوم الإيراني، لتفعيل تحالفات إقليمية، تشارك فيها دول عربية رئيسية، ضدّ إيران وتهديداتها.
انّها لوحة جديدة لعلاقات القوة والنفوذ في الشرق الأوسط. فهل تتكيّف إيران بالرضى، أم انّها تستمر كمن يحفر في حفرة وقع فيها؟.