لم يتأثر الموقف العربي العام، لا سيما ذلك الخليجي بالذات، عما آثره في السنوات الأخيرة من حياد ونأي بالنفس عن الصراعات الكبرى. بدا موقف البلدان العربية واحداً في عدم الانحياز لمصلحة أي طرف من أطراف الحرب في أوكرانيا. لم يكن الحياد خياراً سهلاً بالنظر إلى انخراط دول كبرى يفترض أنها حليفة وصديقة مع دول المنطقة بمستويات تاريخية متفاوتة. ولئن شكّلت بعض المواقف "تمرداً" على الحليف التقليدي الأميركي، لكن ذلك لم يشِ مع ذلك بالاصطفاف لمصلحة روسيا أو الصين.
ولم يتأثّر هذا المنحى بالتحوّل التاريخي الدراماتيكي الذي شهدته ليلة 13-14 نيسان (أبريل) الجاري. شنّت إيران في تلك الليلة هجوماً صاروخياً وبالمسيّرات على إسرائيل انتقاماً لقصف القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان الجاري. صدر عن عواصم المنطقة ما يعبّر عن قلق من التصعيد، والتخوّف من الصدام الشامل، من دون اتخاذ أي موقف مباشر من مفردات الحدث. لا تعليق صدر على مسوّغات الردّ الإيراني من جهة ولا على مواقف الدول الغربية التي ندّدت بسلوك إيران وتدخلت عسكرياً للدفاع عن إسرائيل.
يجري حدث أوكرانيا بعيداً من جغرافيا المنطقة. غير أن أجواء عدد من البلدان العربية كانت مسرحاً للحدث في تلك الليلة الساخنة. مرّت مسيّرات إيران وصواريخها عبر أجواء العراق وسوريا والأردن. بثّ نزاع ثنائي بين إيران وإسرائيل، وبالشكل الذي شهدته ليلة السبت-الأحد الماضي، رعباً لدى سكان مناطق العبور الجوي، وكادت رحلات العبور أن تتسبب بكوارث إنسانية في صراع لا شأن لهم به.
ينحاز الرأي العام العربي، وذلك الذي لسكان "بلدان المرور"، إلى غزّة وفلسطين ولن يضيره تعرّض إسرائيل لهجمات أياً كان مصدرها. غير أن نيران تلك الليلة لم تكن لها علاقة بغزّة وبالمأساة الجارية هناك، ولا بفلسطين وقضيتها. حتى أن إيران نفسها لم تدّعِ ذلك. شدّد خطاب طهران على أن الردّ الإيراني جاء "دفاعاً عن النفس" وانتقاماً لقصف "قنصلية إيران" في دمشق ومقتل "إيرانيين" فيها.
ران توتّر في العواصم المعنيّة في تلك الليلة، قام الأردن بالمشاركة بإسقاط الأجسام التي اخترقت أجواء البلد وشكّلت انتهاكاً لسيادته وأمنه وخطراً على سكانه. تلت ذلك لاحقاً انتقادات من طهران هددت الأردن بأنه سيكون "الهدف التالي" قبل أن تنفي سفارة إيران أمر التهديد وتخفّف طهران من وقعه. ومع ذلك فإن الأردن ودول المنطقة جميعاً، وخصوصاً تلك المنضوية تحت سقف مجلس التعاون الخليجي، حافظت على خطاب الاعتدال والتواصل مع إيران والبناء على ما يحمله "اليوم التالي". استند الأداء العربي العام إلى مقاربة الحفاظ على المصالح أولاً، والتمسّك بخيار مغادرة الاصطفافات، والحفاظ على موقف وسطي يتمسك بما يدعم استقرار المنطقة وازدهار علاقات دولها.
وما عدا الاحتكاك مع الأردن واستدعاء عمّان سفير إيران احتجاجاً، آثرت إيران أيضاً، وسط احتدام الجدل الإيراني بشأن الردّ وأشكاله، الحفاظ على خطاب يحمي حالة الانفراج التي تحقّقت خلال السنوات الماضية بين طهران ودول المنطقة. صحيح أن أمر الاتفاق لم يرقَ إلى مستويات عالية من التعاون والانسجام، غير أن حالة إدارة الخلاف حلّت مكان حالة العيش وفق نهائية الخلاف. توّج الأمر بالاتفاق بين السعودية وإيران الذي رعته الصين في بكين في 10 آذار (مارس) 2023. وكان واضحاً أن إيران والسعودية ودول الخليج كما العالم العربي برمّته متحمّسة جميعاً بهذا المنجز ومصرة على التعويل عليه لرسم مشهد إقليمي جديد.
يمثل تواصل وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان واجهة لتمسّك طهران بالاتفاق مع الرياض. وتواصل الوزير الإيراني مع عدد من نظرائه في عواصم المنطقة. فمقابل ما أظهره العالم الغربي من مواقف مندّدة بإيران وداعمة لإسرائيل، ناهيك بتدخل واشنطن ولندن وباريس العسكري حماية لإسرائيل، فإن إيران تندفع أكثر إلى التدثّر بفضاء إقليمي يردّ عنها عزلة غربية لم تخفف من وقعها مواقف دول حليفة مثل الصين وروسيا. في المقابل، فإن السعودية والإمارات وبقية دول الخليج التزمت مواقف مبدئية في السعي للتهدئة والاستقرار بما لا يقلق إيران ولا يستفزّ داخلها.
لا مفاجأة في أن دول المنطقة تنأى بنفسها عن تعارض أجندات إسرائيل وإيران. لكنّ المنطقة معنيّة بعدم تعرّضها لزلزال الصدام الكبير بينهما. المنطقة معنيّة بالسلم والاستقرار لبلدانها، معنيّة بالدفاع عن مصالحها، بما في ذلك إدارة العلاقة مع إيران كما العلاقة مع بقية دول العالم. معنيّة أيضاً بحماية كل المنطقة من انقسامات الكبار وصراعاتهم. لكن هذا التمرين سيكون معقّداً وصعباً في المستقبل. فحين يعلن قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي أن بلاده سترد مباشرة من الآن وصاعداً على أي هجمات إسرائيلية ضد "مصالحنا وأصولنا وشخصياتنا ومواطنينا في أي مكان"، فإن ذلك يعني أن المنطقة برمّتها دخلت طوراً غير مسبوق.
تلتقي المجموعة العربية وتركيا وإيران، بصفتها فضاءات الشرق الأوسط، على التنديد بالحرب الإسرائيلية في غزّة وتطالب جميعها بوقف إطلاق النار ودعم الحقّ الفلسطيتي بإقامة دولته. هكذا تماماً نصّ بيان القمّة العربية الإسلامية الاستثنائية في الرياض في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 والتي حضرها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. غير أن الخلاف في مقاربة الموقف المشترك والاختلاف في أساليب التعبير عنه حقيقة وواقع لا يمنع من الاهتداء إلى قواسم وتقاطعات.
يعلن محمد جمشيدي، وهو أحد كبار مستشاري الرئيس إبراهيم رئيسي، أن الهجوم على إسرائيل "يعني أن عصر الصبر الاستراتيجي قد انتهى وأن المعادلة تغيرت وأن استهداف الأفراد الإيرانيين والأصول الإيرانية سيقابل برد مباشر وعقابي". تأتي هذه المواقف لتضاف إلى توتّر جديد تعيشه المنطقة مرتبط هذه المرة بالردّ الذي تتوعد به إسرائيل إيران. يقول رئيس وزراء العراق من واشنطن إن "موقفنا واضح: لن ندخل في الصراع". وفق ذلك التوجه، فإن دول جوار إيران جميعاً ستعمل على تجنّب الاصطفاف داخل خنادق هذا النزاع وعلى تحصين بلدانها وتجنّب انزلاقها في مسار غير محسوب وفي قراءة مشوّشة للمشهد الدولي ولحظته الراهنة.